الملحق الثقافي- رجاء شعبان:
سأبدأ من سامية محرز حفيدة الشاعر إبراهيم ناجي صاحب قصيدة الأطلال التي غنت أم كلثوم أبياتاً منها لجمالها طبعاً! سامية محرز تعترف بأنّ الملهمة الحقيقية لجدها لم تكن جدتها زوزو حمدي الحكيم، ولم تكن زوزو ماضي، لكنها كانت السيّدة عليّة الطوير، جارة جدها فترة الصبا، ومعلمته اللغة الفرنسية، وقد تكون أيضاً مسؤولة عن توجهه الرومانسي، حيث إنه كان يشير إليها في مذكراته بـ….. «ع»
قد يتبادر السؤال لماذا تكون امرأة بعينها تلهم مبدعاً أو إنساناً في مجال ما؟ وربّما تدمّره وربّما تصنع منه إنساناً عظيماً، ولكن طالما ملهمة ستأخذه لمكانٍ عالٍ من أماكن التميز والإلهام حيث هي ترفعه إليها، فهي ملهمة سامية رافعة عاطية غامرة دافقة بالعاطفة والأنوثة!
العاطفة والأنوثة؛ نضع تحتها خطّاً! ما دخل الأنوثة بالإلهام؟ وما الأنوثة؟ نحن نقول المرأة الملهمة والمرأة الملهمة هي أنثى بمقومات مختصة من عوالم الأنوثة! الأنوثة التي هي صفات الرقة والعذوبة والجمال والذكاء والجاذبية، الأنوثة هي الشعلة المتقّدة لكيان أو من كيان.. هي مجاميع الإبداع.
قد يضحك البعض وخاصة من هم من أصحاب النظرية التي تقول أن كل النساء مثل بعضهن وكما وصف أحدهم قائلاً: كل النساء جميلات وأجملهنّ أمي! ومن مبدأ أنهن كلهن معطاءات بطريقة أو بأخرى.. وهذا صحيح، لكن نحن نقصد تلك الأنثى الخارقة غير الاعتيادية التي قدّمت ربما من لا شيء وأخرجت موهبة من العدم وتحدّت الصعاب أو امتلكت من الميزات الربانية والخلقية والصفات الجميلة مالم يكن عند غيرها من أصحاب الذوق المتعارَف عليه… فهناك دائماً تميّز بأي شيء والتميز عند المرأة يأتي بإضافة خصائص الذكاء لجانب خلقتها الربانية الممزوجة بالعاطفة مع مزيج لذيذ من العقل يوازن سيلان العاطفة وتدفقها إلى نهر جارف…وأسلوب منمّق منضبط.
إذاً المرأة الملهمة امرأة استثنائية، كسائر النساء، لكنها اجتهدت وبحثت في الحياة وأمسكت أسراراً منها ووصلت للحب النقي والعطاء الصافي، فعرّفتَك بجوانبك الخفية، وأخرجت من درر مكنونك، وأحبّتك لِذاتك، لا لشيء آخر مُعتَرَف به فقط كشراكة حياتية معيشية، تعطي فقط غرائزياً الحنان والأمان وتأخذ الدعم والمساندة. هي لهيب الحب المتّقد الذي لا ينطفئ. يحرّك جذوة المشاعر، ويشعل لهيب الأفكار ويأتي من عالم العلوّ والإلهام بأشياء مبهرة وجميلة قد لا يعرف الشخص المقابل لها والمتعارف عليها أنها موجودة به! هي امرأة خالقة وليست ولْادة ومربية وداعمة… هي قد تؤذيك بتناقضها وتمرّدها وعنادها ولكنك تعشق كل مافيها لأنك ترى ذاتك متجدداً بها ومخلوقاً خالقاً لها ولذواتك الجديدة، فتقرّبك من ذاتك القداسيّة…هي إحدى ذواتك المختفية بك التي ظهرت من خلالها فأظهرتك بجلالها من تكوين هيبتك رقيقاً ناعماً متآلفاً مع الحياة… نصفك الناعم المختبئ في أعماقك هي والمغيَّب وراء الذكورة والعادات والتقاليد التي تشجع القسوة وتلوم اللين. /
هي آلهة آتية من الأساطير وقادمة من الخيال مجسدة الأحلام تذيقك الجنة المفقودة على الأرض، تشعرك بالاكتمال قبل أن تنفصلا مشرّدين على أرض معذبّة، هي صفاء الشعور قبل وسوسة الشياطين من مخلوقات الكره… هي ولادة الحب من جديد… الحب المبدع للذات الإلهية، تفهم من خلالها سر خلقتك ونشأتك، وتعيد ترتيب أوراق ذواتك كأنك تتكوّن من جديد… وبسرعة هائلة، طاوياً الزمن في قبضتك مشعلاَ الوقت ثمرة لذيذة لا تملّ من العمل وتناول ثمر أكلها… هي طعم الخلود…. الخلود الذي كنت لا تؤمن بوجوده ولا تتجرّأ أن ترفضه لأنه موجود لكنه قد غاب في الذاكرة… هي الحسم بوجود الخالق الجميل، وليس الحياة الواجبة المرهقة المتكررة كصفحات الأيام التي تعد العمر وتحسب الإنجازات بالأرقام لترضى..
المرأة المعجزة في زمن الهزائم!
تكون أنت لا شيء.. هكذا يخيل لك من نفسك فتأتي هذه الفتّانة الجميلة لتفتنك بحالك أولاً، وتريك جمال ما خفي منك، وتستر عورتك التي تراها قبحاً وذنباً… إنها ثورة المفاهيم… خربطة القيم وإعادة ترتيبها في مصنع الرقي والتسامي… إنها الآدمية المنوّرة في آدم الطين… والباعثة النغم في الصلصال.
لن أستطرد وأسرد أكثر وأخرج عن الموضوع وأستذكر قصص ملهمات في حياة العظماء وأقول كما قيل من قبل بأنّ: وراء كل عظيم امرأة عظيمة، ووراء كل عظيمة رجل عظيم؛ هذا صحيح! والعظمة للاثنين… لكنّ الأنوثة تلك الآلة المصنوعة من خشب أصيل، وذاك المعدن الذي صقله الزمن بالحنين… فغدت معك تلك الروح التي تعزف معك ذات اللحن، وتستخرج منك مبدعاً آخر خاصاً بها بطيبها وعودها وخشبها ومعدنها، ما يطرب ويمتّع ويفيد الإنسانية كلها…وليس فقط أنت يا منفرد يا إنسان إنها دواتك وحبرك وقلمك يا كفّاً حين يكون أصلياً مصقولاً بإتقان… إنها تلك الثمرة اليانعة الخاصة بك وحدك تتذوقها كأن لا طعم مثلها على الإطلاق… إنها نسل النور وسليلة أبناء السماء.. ستجدها دائماً لكن لن يمنّ الزمن عليك بمثلها إلا واحدة… فهي الواحدة وهنّ الكثيرات… هي المتفرّدة وهنّ المتشابهات… هي الطفلة وهن الكبيرات… لن تشعر معها بالعجز… وستعيش معها كل الفصول وكل مراحل التطور والنموّ والإبداع بلحظة واحدة… هي نصفك الآخر الذي تحن إليه وتشتاقه، وقد خرج منك منذ أبد الدهور…تعود إليه وقد بقيتَ تبحث عنه لتعرف نفسك…
فتأمل جمال وجودك بها.. بملقاها…. كم هذا رائع ونبيل!
وأختم من هذا الاستطراد الجميل في الأنوثة لخير جمال الأمثلة وقد تجسّد بأروع قصة حب بين كاتب مبدع فقد بصره وهو صغير وبين زوجة قال عنها: من دونكِ أشعر أنني أعمى حقاً
إنها سوزان بيرسو، وقصة حياة بينهما امتدت قرابة 60 عامًا، ويقول عن هذه القصة بدر الدين عرودكي «هو المصري المسلم وهي الفرنسية المسيحية، هو الأديب والمفكر الذي أفنى عمره في البحث والتأليف وهي عيناه اللتان كان يرى ويقرأ بهما العالم، هما الزوجان اللذان لم يحييا حياة عادية، ولم يكن حبهما عاديًّا».
سوزان بيرسو، تحدّثت عن زوجها عميد الأدب العربي طه حسين، بعد سنوات قليلة من وفاته، وأصرت أن تكتب
مذكراتها تكشف فيه حجم حبها لزوجها، الذي أصرت على الزواج منه في فرنسا رغم اختلاف الدين واللغة والدولة التي ينتميان لها، وكانت أكبر عون وسند له، لذلك قال عنها طه حسين «ما بيننا يفوق الحب».
ويسعنا هنا أن نستذكر عطية الله إبراهيم التي عاشت لنجاح زوجها الروائي العالمي والأديب نجيب محفوظ، وقال عنها: تحمّلتني كثيراً وساعدتني على تطبيق النظام الصارم.
فالأنوثة ليست فقط دلع وغنج ورقّة بل هي نظام صارم لحياة ناجحة وناتجة لكل أنواع النجاحات.
وتحية إلى ملكة أبيض زوجة الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى والتي لا يختلف دورها عما ذكرنا وإلى الكثيرات الكثيرات… نحن لا نخصص هنا حتى لا نغفل ونظلم، فقط أعطينا مثالاً على قمة العطاء الأنثوي الذي أنتج إبداعاً ومبدعين. وحتى لا نظلم الأنوثة… قد تكون امرأة عابرة ملهمة في الشارع… في الحارة… في فيلم… في مسلسل… في بال… في خيال…. وليس فقط زوجة مرافقة أو عاشقة ورفيقة وصاحبة…
هي بالنهاية فكرة عبقرية مجنونة هاربة من عقال سجن العقل إلى مدايات الروح ومحلقة بالعقل حيث آفاق الغيم والشموخ….
وكنتُ صغيرة إذ كتبت: ضميني أيتها الأنوثة في حضنك الرقراق… فالروح أنثى والأنثى روح التحليق والحنان والانطلاق والانعتاق من قيد قبضان النفس… ولنحرر أنثى أعماقنا سواء كنا ذكراً أم أنثى….
العدد 1191 – 28 -5-2024