الملحق الثقافي-أيمن المراد:
جاءت بداية الحراك النسوي في سورية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت البداية من خلال إقامة الصالونات الثقافية، وكتابة المقالات للمجلات والجرائد، وقد اقتصرت هذه المرحلة على نساء الطبقة العليا، وذلك لما توفر لهن من مساحة للتثقف لم تكن متحققة لنساء الطبقات الأخرى، واستمر الحال على هذا النحو حتى أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، لتبدأ الحركة النسوية مرحلة جديدة مع العشرينيات، إذ اتخذ الحراك فيها مسارًا جديدًا تمثل في محاولة الانخراط في الحياة العامة، حيث ظهرت الجمعيات النسائية التي ركزت على قضايا تعليم المرأة وخروجها إلى العمل في البداية ثم تطور الخطاب ليتمحور حول الحقوق السياسية، فضلًا عن الدور الأصيل الذي لعبته الحركة النسوية خلال هذه الفترة في مناهضة الاستعمار الفرنسي ومقاومته حتى استقلال سورية في العام 1946.
وقد زخرت المرحلتان بأسماء رائداتٍ ساهمن في بناء الوعي النسوي في سورية:
ماريانا مراش.. صاحبة أوّل صالون ثقافي في الشام
من أبرز رائدات المرحلة النهضوية الأولى في سورية، فهي صاحبة أول صالون ثقافي تنظّمه امرأةٌ في الشام، ويزعم البعض أنها الأولى في العالم العربي، وهو ما يعارضه بعض المؤرخين مؤكّدين أن الأميرة نازلي فاضل (إحدى أميرات الأسرة العلوية) في مصر كانت أول امرأة تعقد صالوناً ثقافياً يتردّد عليه الأدباء والكتاب ورجالات الدولة.
وُلِدت ماريانا مراش في مدينة حلب عام 1848 لأسرة أرستقراطية، والدها هو فتح الله مراش أحد أعيان حلب، وكانت مكتبته تعجّ بالكتب والمخطوطات التي ساهمت في تشكيل وعي ماريانا وتثقيفها، وكان شقيقاها عبد الله وفرنسيس من أركان النهضة الأدبية في سورية تعلمت قواعد اللغة العربية على يد والدها.
عندما بلغت الخامسة، التحقت بالمدرسة المارونية في حلب ثم المدرسة الإنجيلية في بيروت، فأتقنت اللغة الفرنسية التي كانت أغلب المدارس في لبنان حينذاك تقتصر على التعليم بها، كما درست الموسيقا، فبرعت في العزف على آلتي البيانو والقانون.
ذهبت لاحقًا إلى أوروبا فانفتحت على الثقافة الغربية، وتعرّفت إلى ظاهرة النساء الأوروبيات وتحديداً الفرنسيات اللاتي يُنَظّمن صالوناتٍ ثقافية في بيوتهنّ، ويستقبلن فيها روّاد الأدب والشعر والصحافة، وأبهرها التحرّر والعلم اللذين تتمتع بهما تلك النسوة، وأدهشها تأثيرهنّ في الحياة الثقافية هناك، وهو ما تمخّض عنه قرارها بتحويل منزلها إلى صالونٍ أدبي.
اعتاد على ارتياد الصالون روّاد الأدب في حلب، مثل رزق الله حسون، والقسطاكي الحمصي، وجبرائيل دلال، وقد وصف الأديب السوري القسطاكي الحمصي مراش قائلًا: «إنها سليلة بيت علمٍ، وشعلة ذكاء وفهم، فصيحة الخطاب، ألمعية الجواب، تسبي ذوي النهي بألطافها، ويكاد يعصر الظرف من أعطافها، تحنّ إلى الألحان والطرب حنينها إلى الفضل والأدب، وكانت رخيمة الصوت، عليمةً بالأنغام، تضرب على القانون فتنطقه إنطاقها الأقلام»، ووصف الصالون قائلاً: «كان منزلها في حلب مثابة الفضلاء وملتقى الظرفاء والنبهاء وعشّاق الأدب.»
كانت مراش تتطلّع إلى تغيير جذري وعميق، فطرقت أبواب الصحافة وكتبت أول مقالٍ لها في العام 1870 في مجلة «الجنان» اللبنانية التي أسّست في العام نفسه كمجلةٍ سياسية وأدبية وتاريخية، ووقّعت حينها باسمها رافضةً التوقيع باسم مستعار، وكتبت أيضاً في جريدة «لسان الحال» اللبنانية التي أسّست في العام 1877 وتناولت مراراً أوضاع المرأة العربية، منتقدةً تهميشها وحرمانها من التعليم والخروج إلى الحياة العامة، وتوجّهت إلى النساء مباشرةً داعية إياهنّ أن يشرعن في الكتابة.
وفي العام 1893 نشرت مراش كتابها الشعري بعنوان «بنت فكر» وكان الأول من نوعه، فلم تسبقها أيّ امرأة إلى هذه الخطوة.
نازك العابد.. المُحارِبة على كلّ الجبهات
جان دارك العرب، نجمة ميسلون، السيف الدمشقي المنسي، الياسمينة المنسية، رائدة تحرير المرأة السورية، بكل هذا لُقّبَت نازك العابد التي ولدت في دمشق في العام 1887، ومثل ماريانا مراش، فإنها تنتمي إلى أسرةٍ سورية أرستقراطية، فوالدتها هي فريدة الجلاد سليلة أسرة دمشقية عريقة ووالدها من الأعيان، فقد شغل منصب متصرّف الكرك ثم عُيّن واليًا على الموصل. والمُتصرّف هو موظفٌ إداري يُعَيَّن بأمرٍ من السلطان العثماني كرئيس للمتصرّفية التي تعرف كتقسيمٍ إداري، حيث تنقسم كل ولايةٍ إلى عددٍ من المتصرّفيات.
حرصت أسرة العابد على تعليمها منذ الصغر، فألحقتها بالمدرسة الرشيدية للبنات لتعلّم اللغات والعلوم التقليدية، وظلّت حياة الأسرة تتسم بالرغد والهدوء حتى جاءت الحرب العالمية الأولى لتنغّصها، فنُفِيَ الأب إلى مدينة إزمير في تركيا واصطحبها وأمها معه، ولم تتمكّن العابد من العودة إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
كانت العابد متمرّدة وثائرة، وقد انعكس ذلك في مقالاتها التي نشرتها مجلة العروس المملوكة لماري عجمي ومجلة الحارس التي أصدرها أمين الغريب في العام 1923، ودعت فيها إلى تحرير المرأة والتوقّف عن انتهاك حقوقها في التعليم والعمل والخروج للحياة العامة، كما طالبت بإعطاء المرأة حقوقها السياسية.
بعد تتويجه ملكًا بسنتين، عيّنها الملك فيصل بن الشريف حسين رئيسةً لجمعية النجمة الحمراء في العام 1920، ومن خلالها أصدرت في شباط من العام نفسه مجلة «نور الفيحاء» التي تندرج تحت المطبوعات الأدبية الاجتماعية التي ترمي إلى تثقيف المرأة. وفي العام ذاته وبالتعاون مع ماري عجمي أسّست النادي النسائي الشامي ليضمّ عدداً من السيدات السوريات المعنيات بقضية تحرير المرأة، ويعود الفضل إلى العابد في تأسيس مدرسة بنات الشهداء لتعليم البنات في دمشق.
واحدةٌ من أهم المحطات في مسيرة العابد هي مشاركتها في معركة ميسلون التي وقعت بين قوات المتطوعين السوريين بقيادة وزير الحربية يوسف العظمة من جهة والجيش الفرنسي من جهة أخرى، وذلك في يوليو من العام 1920 وقد ارتدت وقتها الملابس العسكرية وتفقّدت الجنود، وتذكر بعض المصادر التاريخية أنها نزلت إلى أرض المعركة وشاركت فيها متخفيةً في زيّ العسكريين الرجال.
بعد إعلان الانتداب الفرنسي على سورية في العام 1922، شاركت في المؤتمرات الجماهيرية والمظاهرات الشعبية المُنَدّدة بالاحتلال، فجاءت غضبة المحتل في صورة إغلاقٍ لكلّ منابرها، فأوقف المجلة عن الصدور والمدرسة عن العمل وحظر مشاركتها في أيّ فعالية جماهيرية، ومع ذلك لم تُثبط عزيمتها واستمرت في المقاومة لكن بشكلٍ سرّي فانضمت إلى التنظيمات السرية.
تيقّن المحتل أن إخماد ثورة العابد وقطع الطريق أمام شغبها المزعج لن يحدث إلا بالنفي خارج البلاد واختار اسطنبول التركية وجهةً، لكن الترصّد والتعقّب لم يتوقف عند ذلك ما اضطرها إلى اللجوء إلى شرق الأردن لتبدأ محطة أخرى في طريق النضال ضدّ الاحتلال الفرنسي، تمثّلت في التنقّل بين الدول الغربية لنشر أخبار الحراك السوري ومطالبة المجتمع الدولي بدعم حقّ بلادها في الحرية والاستقلال، فذاع صيتها ونشرت عنها الصحف الغربية ملقبةً إياها بــ «جان دارك العرب»، نسبةً إلى البطلة القومية والقديسة الفرنسية الشهيرة.
بعد انقضاء سنتين في المنفى، عادت العابد إلى سورية بعد أن تعهّدت بألا تشارك في أيّ نشاطٍ معادٍ للاحتلال، ووافقت على الإقامة الجبرية في مزرعتها الموجودة في إحدى ضواحي دمشق، حتى اندلعت الثورة السورية الكبرى في العام 1925، شاركت العابد في الثورة بصورةٍ غير مُعلنة، فكانت ترشد ثوّار الغوطة وتوجّههم في تحركاتهم وعملياتهم لدرايتها بجغرافيا المنطقة.
في العام 1929 وبعد زواجها، انتقلت للإقامة في بيروت لينتقل نشاطها معها، فتؤسّس جمعية المرأة العاملة، ودار أيتام لتربية بنات الشهداء في لبنان، وفي السبعين من عمرها أسّست لجنةً مهمتها تثقيف الأمّ اللبنانية في مجالات الحياة كافة.
عادلة بيهم الجزائري.. عميدة العمل الأهلي في سورية
ما يميّز عادلة بيهم الجزائري هو انخراطها في المجال العام مبكراً، فقد كانت مقدامة ومثابرة واتخذت خطوات كبيرة رغم صغر سنها، فأسست جمعية يقظة الفتاة العربية في العام 1915 بغية تعليم الفتيات، ومحاربة الأمية المنتشرة بينهن؛ وكانت حينها لم تتجاوز الـ15 عامًا، ثم تأسيس جمعية الأمور الخيرية للفتيات العربيات بالتعاون مع ناديها ومدرستها، كما ترأست في العام 1916 لجنةً تشرف على دار الصناعة لتشارك في تقديم وجباتٍ مجانية لنحو 1800 عاملة يعملن في صناعاتٍ عديدة كالنسيج والغزل والأشغال اليدوية.
أدركت منذ صغرها أنّ الصحافة أحد أهم دروب التغيير، فكتبت مقالاتٍ نشرتها جريدة «المفيد» اليومية التي أسّسها خير الدين الزركلي في دمشق في العام 1918، وجريدة «فتى العرب» التي أسّسها أحمد الأرناؤوط في العام 1920، وذيّلت مقالاتها بتوقيع «الفتاة العربية». كانت تحثّ الفتيات والنساء في مقالاتها على مجابهة الاحتلال، وتشدّد على ضرورة تحريرهنّ من القيود المجتمعية التي تقمعهنّ وتحرمهنّ حقوقهنّ. في الوقت نفسه شاركت في المقاومة السرية والعلنية ضد الاحتلال العثماني ومن بعده الفرنسي، ومع اندلاع الثورة في العام 1925، انضمت إلى الجماعات السرية التي تسعى إلى الاستقلال ودعمت حركة المقاومة من خلال تأمين العلاج والغذاء والكساء للثوّار إضافة إلى تشكيل لجنةٍ لمساعدة أسرهم.
انشغلت الجزائري بقضيتين رئيستين؛ وهما تمكين المرأة ومشاركتها السياسية، فأسّست جمعية يقظة المرأة الشامية في العام 1927 لتشجيع المرأة العاملة، داعيةً من خلالها إلى إحياء الصناعات اليدوية وتطويرها، وساهمت في تأسيس جمعية دوحة الأدب في العام 1928 من أجل النهوض بوضع المرأة الثقافي، والارتقاء بمكانتها في المجتمع، إضافة إلى تولّيها إدارة معهد دوحة الأدب الذي ركّزت من خلاله على تعليم الفتيات.
كانت الجزائري ركيزةً أساسية في تشكيل الاتحاد النسائي السوري، والذي أسّس بالتشارك بين ثلاث جمعياتٍ نسائية في العام 1933.
خلال فترة تولّي الجزائري لرئاسة الاتحاد النسائي السوري، عملت على محاربة الأمية بين النساء وقادت حملة نسائية تطالب بإقرار حقّ النساء في الانتخاب، وأتى نضالها في هذا الصدد أُكله عندما نالت المرأة السورية حقّ الانتخاب في العام 1949، كما قادت الجزائري الحراك المطالب بالاعتراف بحقّ النساء في الترشّح إلى المناصب السياسية والقيادية والمساواة بين الجنسين في الأجور والحقوق التقاعدية بعد الوفاة. إلى جانب كلّ ذلك، لم يقتصر نشاطها على النطاق المحلي فقد اتسعت آفاقه ليصبح إقليمياً، وشاركت في تأسيس الاتحاد النسائي العربي الذي انطلقت أعماله في العام 1944 بعد انعقاد مؤتمر التدشين في القاهرة برئاسة هدى شعراوي.
تقديرًا من الدولة السورية لكفاحها الطويل، أطلقت وزارة التربية اسمها على المدرسة الجديدة في شارع ناظم باشا في دمشق، وكان من المزمع أن تشهد تكريمها وتسليمها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة في العام 1975 إلا أن الموت حال دون ذلك.
إضافة إلى هؤلاء، هناك العديد من الرائدات السوريات اللاتي خضن معارك ضدّ الاستبداد في صوره المختلفة، والغاية من استعراض سيرهنّ هي النظر في جذور الحركة النسوية السورية وسبر أغوارها.
العدد 1192 – 4 -6-2024