هفاف ميهوب
إنه الوصف الذي أطلقه الكاتب والناقد الفرنسي «موريس بلانشو» على المترجمين، ممن رأى بأن دورهم الخفي في جعلِ الثقافاتِ واضحة ومفهومة، لا يقلّ أهمية عن الدور العلني للنقّاد والشعراء والروائيين..
وصفهم بذلك، لأنه وجد بأن مهمتهم محفوفة بالمخاطر، وتتطلّب اختراق حدود اللغات وتوسيع آفاقها، مثلما تقريبها من بعضها، وفكّ طلاسمها وردمِ اختلافاتها..
إذاً، على المترجم أن يكون كاتباً أميناً ومتفرّداً في أصالته، وهو ما أكّده «بلانشو» الذي رأى، بأن المترجم الأمين على لغته:
«المتحكّم في الاختلاف بين اللغات، لا بهدفِ محوِ هذا الاختلاف والقضاء عليه، وإنّما بهدف توظيفه في لغته، كي يبعث فيها حضوراً لما هو مختلف، لينصهرا معاً في لغةٍ كليّة خالصة، تنتج عملاً خارقاً».
لاشكّ أنه رأي، قد يختلف أو يتّفق مع آراءِ كُثر من الكتّاب والنقاد والمبدعين.. قد يختلف مع رأي كلّ من اعتبر الترجمة، فعل خيانة أو تزوير أو تشويه، وقد يتّفق مع الآراء التي وجدتها، جهداً عالمياً تتجلّى عظمته، في لحظة الصمت التي تسبق الكلمة، أي اللحظة التي يتمّ فيها تحويل «الشيء الذي يكونه» إلى شيءٍ آخر، يُبقي «الشيء الذي كأنه»..
يتّفق هذا الرأي، مع رأي الروائي البرتغالي «خوسية ساراماغو».. ذلك أنه وجد بأن دور المترجمين يضاهي في أهمّيته دور الكتّاب والشعراء والمبدعين، وقد دلّ على ذلك قائلاً: «يصنع الكتّاب أدباً قومياً، بينما يصنع المترجمون أدباً عالمياً»..
بيد أن هذا الأهمية، هي من جعل الكاتب والروائي الهندي «فيفيك شانباغ» يشير إلى أن قوة الترجمة، تكمن في قدرتها على نقلِ ما لم يُقل في عملٍ ما، من لغةٍ إلى أخرى، وإلى أنها أيضاً، تتطلّب مترجماً أميناً على اللغة والكلمات، ذلك أنها وكما وصفها:
«للكلماتِ ذكريات وتاريخ خاص بها، ولا توجد كلمتان لهما معنى متطابق كلّ التطابق، ولكي يعيدُ المترجم صياغة النصّ غير المُعلن في لغةٍ أخرى، يتعين عليه أن يفهم السياق في النصّ الأصلي، ثم يفكّكه ويعيد صياغته في اللغة المستهدفة»..
كلّ ذلك وغيره مما تناولناه، يفرض علينا «أن نقول الشيء ذاته تقريباً».. الكتاب الذي تناول فيه الروائي الإيطالي «ألبرتو إيكو» قضايا الترجمة التي وجدها، تتطلّب وبالدرجة الأولى، فهم الإطار التاريخي والحضاري الذي أوجد النصّ، ومن ثمّ فهم حوار المترجم الذهني العميق، مع الثقافة التي أوجدت النصّ الأصلي، مثلما مع النصّ الذي سيتحوّل إلى لغتها، ويجعل عملية الترجمة «محاولة جمالية ـ إبداعية»..
هذا ما أطلقه «إيكو» على عملية الترجمة التي لم تكن لديه مجرّد عملية نقل، بل كانت ورغم إشكالياتها، تشير إلى أنها بالفعل:
«لا تعني فقط، المرور بين لغتين، بل بين ثقافتين، أو موسوعتين..»..
