ديب علي حسن
لم يكن المثقف في يوم من الأيام خارج إرادة الفعل والعطاء أبداً, والمثقف العضوي هو الذي ينغمس قي قضايا المجتمع ويتخذ موقفاً ورأياً صريحاً لا لبس فيه، قد يدفع ثمنه ولكنه يمضي ويدافع عنه من أجل المصلحة العليا التي ليست بالتأكيد شخصية.
السؤال طرحناه منذ أكثر من عقد من الزمن يوم خذلنا الكثيرون ممن كنا نظنهم نجوماً في الثقافة، لكنهم عند أول منعطف أو أول إغراء باعوا كل شيء وقبضوا الثمن البخس، ومضوا إلى مزابل النسيان، والقضية هذه ليست جديدة في المشهد الثقافي العربي أبداً فهي ليست قضية اليوم، ولا هي وليدة الأمس، إنها أبعد من الأمس وما قبله، تعود إلى عدة قرون، مذ نشأ مصطلح المثقف وأصبح واقعاً لا يمكن تجاوزه، وتم الانتباه إلى دور المثقف والمثقفين في بناء المجتمعات وتغييرها، وقد بدأ هذا مع الحراك الذي قاده مفكرون غربيون،من ثم تطور المفهوم ليأخذ أشكالاً مختلفة.
مع هذا التطور السريع لمفهوم المثقف ودوره في الحياة الاجتماعية، ومن ثم التغيير وبناء مجتمعات متحررة من رواسب الجهل والتخلف والعمل على نشر الوعي والتنوير، مع هذه المهام كلها ثمة ركام من الأسئلة الحائرة التي تأتي على شكل اتهامات غير بريئة عن الدور والغاية والهدف الذي يسعى إليه المثقف، وما هو الدور الذي يجب أن يكون، لا ما هو كائن، بدأ هذا النقاش في الغرب أيضاً ليصل إلى ذروته مع سارتر ومفكرين آخرين وليطلق سارتر كتابه الشهير: دفاعاً عن المثقفين، وهو مجموعة محاضرات ألقاها في اليابان وعاد وطورها بعد ذلك، ليصل الأمر أيضاً إلى منطقتنا وعالمنا العربي، مع الاعتراف بالدور التنويري الهام الذي أداه المفكرون والمثقفون العرب في مطلع القرن العشرين المنصرم، وربما من الواجب علينا أن نسأل ونتساءل: لماذا كان دور المفكر والمثقف أكبر بكثير مما هو عليه الآن؟
ونعود إلى طرح السؤال الذي طرحناه منذ عام 2015 وهنا في هذا الموقع: لماذا تخلى هو عن هذا الدور، أم إن ثمة من أجبره على هذا التخلي، ومن ثم انكفأ هو إلى برجه العاجي ؟ وبالتالي ما الذي خسرناه جراء هذه الحال؟
وقلنا، ومازال القول صالحاً، وكنا ننتظر الإجابات إننا نعبر أصعب مرحلة تاريخية، ومجتمعاتنا في مرحلة مخاض ربما لا ينتهي إلا بعد عقود، وثمة حمل قد يكون كاذباً،وقد يكون حقيقياً، إذا ما أحسنا الاستفادة من المتغيرات، واستطعنا أن نعرف لماذا كانت كاذبة، ولماذا هو حمل من خارج المجتمع؟ ولماذا انكسر المجتمع العربي وضاع شبابه ليجدوا أنفسهم فريسة الجهل، والتكفير وبالتالي يغرقون في أتون بحر المياه الآسنة؟
ما يجري في الوطن العربي، وما نراه انهيار للكثير من القيم والمبادئ والضياع، والاتجاه نحو التيه والانغماس بمال الخليج الفاسد، وبالتالي بيع كل شيء أمام حفنة دولارات، هل هو نتيجة طبيعية لانكفاء وانكسار المشروع التنويري، وإهمال الجانب الثقافي والمعرفي ؟
أسئلة كثيرة تطرح الآن وتحتاج إجابات الآن، لا الغد ولا بعده، نعم الآن نحتاج إلى أن نجد الرؤى ونقف على الأسباب والنتائج، وربما علينا أن نذهب أكثر في طرح الأسئلة المحرجة: لماذا لم يحسن علماء الاجتماع وهم ما شاء الله لدينا أكثر من الهم على القلب – لم يحسنوا رصد التحولات التي كانت تجري.؟
ومن ثم ما نفع آلاف رسائل التخرج، دبلومات، ماجستيرات، دكتوراه، في العلوم الاجتماعية والتربوية والنفسية، وما نفع هذا الركام من الكتب التي وضعها هؤلاء؟
أكانت من وراء زجاج معقّم لأنهم لم يعرفوا طعم الحياة، ولا انغمسوا فيها أبداً، وبالتالي جاءت دراساتهم وبحوثهم مجرد تنظير لا أساس له من الصحة ؟
وما ينطبق على العلوم الاجتماعية، ينسحب على مختلف العلوم الأخرى، وبالتالي فنحن أمام ازدواجية، وأمام ركام من الانجازات في تحصيل الشهادات العلمية، وهي في أحسن الأحوال ليست إلا ورقاً يجيز لحامله ممارسة مهنة ما، بمعنى آخر لم يستطع حملة هذه الشهادات أن يحولوا العلم إلى معرفة وسلوك، وظلوا في كهوف الجهل والضياع، وانسحب ذلك على من يدعي أنه مثقف أو مفكر، وهنا يقف الراحل جلال فاروق الشريف معللاً أسباب الإخفاق في التغيير وعدم اخذ المثقف دوره.