الثورة – عزة شتيوي:
يكثر الحديث هذه الأيام في الأروقة الإعلامية وخاصة التركية عن تقارب ومصافحة وشيكة بين دمشق وأنقرة لدرجة أن بعض التقارير الإعلامية القادمة من غرف الأخبار التركية ومنصاتها التحليلية وعناوين صحفها أعلنت عن نجاح نسبي في التفاهم التركي مع سورية مباشرة بما لذلك من انعكاسات على استقرار في المنطقة.
الأخبار والمقالات التركية بقدر ما تفصح عن تفاؤلها تكشف بأن أنقرة هي من تبادر لهذه الخطوة تجاه دمشق بل وتسعى عبر المباشرة والوساطة للتفاهم مع السوريين بعد أن عادت معظم العلاقات السورية العربية إلى طبيعتها وبدأت الدول العربية تعيد فتح السفارات في دمشق وتتبادل معها السفراء والبعثات الدبلوماسية، ولكن بحكم أن لتركيا صفحات سوداء في عمر الحرب مع السوريين وصلت فيها حد احتلال جزء من الشمال السوري وقيادة الجماعات الإرهابية هناك، فلا بد أن الإفصاح الإعلامي التركي عن مصالحة قريبة مع سورية لن يبنى إلا على تحقيق شروط دمشق لهذه المصالحة وهي الانسحاب الكامل من الشمال السوري وخروج المحتل التركي بكل تفاصيله الإرهابية وهو الأمر الذي شددت عليه دمشق وأكدت أنه المفتاح الوحيد للدخول إلى غرفة المصالحة مع تركيا والجلوس معها إلى طاولة دبلوماسية.
ليست مفاجئة لكن عيون بايدن قد تتحجر..
لا تبدو الخطوة التركية مفاجئة إن حدثت فخلال السنوات الماضية عبرت أنقرة عن رغبتها في حل المشكلة مع الجارة السورية وكما كانت تركيا جزءا من المشكلة والحرب على السوريين كذلك قد يكون للانسحاب التركي من الأراضي التي يحتلها وانكفائه الدور الأكبر في حل المشكلة وإنهاء جزء كبير من الحرب على السوريين بل وإضعاف للموقف الأميركي أيضاً.
فالدوافع التركية لحل الأزمة في سورية وإنهاء الحرب عليها ليست مجرد دبلوماسية أخلاقية ظهرت فجأة في السياسة التركية، بل هي حزمة من الظروف والمستجدات والتعقيدات وتضارب المصالح حتى مع حلفاء تركيا أدت الى تغيير الاستراتيجيات حتى تجاه الحليف الأقوى لتركيا وهي أميركا ودول حلف الناتو، ولعل مسارات أستنه قد لجمت سياسة أردوغان العدوانية تجاه سورية، ولكن انتخاباته الرئاسية الأخيرة كانت منطلقا واضحا لخطوات التقارب مع دمشق التي بقيت عند موقفها وشروطها أن لا تقارب بلا انسحاب تركي من الأراضي السورية وتوقف لدعم الإرهاب وميليشياته، رغم أن برنامج أردوغان الانتخابي كان مبنيا على خطاب المصالحة مع سورية وحل أزمة المهجرين، ما اعتبرته دمشق مجرد دعاية انتخابية حتى يثبت الرئيس التركي العكس.
ولكن ثمة مستجدات دفعت أنقره لطلب المصالحة والإلحاح عليها حيث ينظر أردوغان الى المليشيات الانفصالية في سورية والعراق مثل “قسد” على أنهم أخطر الأوراق ضده وأن هذه الورقة تدعمها واشنطن لاستفزازه وإخضاعه أكثر، فما كان منه إلا أن ذهب للعراق وجلس للتفاوض معهم والتوسط لديهم للتقارب المباشر مع دمشق على ذمة صحيفة بني شفق التركية التي ذكرت على لسان كاتبها يحيى بستان بأن تغيير السياسة التركية تجاه سورية أفزع أميركا ولذلك قامت بخطوة جديدة لتعزيز نفوذها من خلال محاولة توحيد ما سماه التنظيمات “الإرهابية” في شمال العراق وسورية، وهنا يقصد ميلشيات “قسد” وغيرها من المشروع الانفصالي الذي يسمى كوردستان الكبرى والسماح بإجراء انتخابات لهم، وهذا الوهم الذي تخدع به أميركا أدواتها من الانفصاليين ليبقوا طوع يدها.
بستان أكد في مقاله على أن تركيا ردت على هذه الخطوة الأميركية بالجلوس مع العراق والتفاوض معه والتوسط لحل المشكلة معه ومع سورية ما أدى لتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، واللافت أن بستان أكد أن واشنطن بدأت تناقش إمكانية سحب احتلالها من سورية للتركيز على الصين، وهو ما سيشكل تطوراً يغير اللعبة ويكسر كل المعادلات القائمة وقد تؤدي إلى تغييرات كبيرة في المواقف والتحالفات.
هل تمرد أردوغان أم اهتز عرش الدولار؟
في كل هذه المعلومات التي يمهد فيها الإعلام التركي لخطوة جدية في سورية يبقى السؤال هل خرجت تركيا فعلا عن طاعة الأميركي؟ وكيف لدولة عضو في حلف شمال الأطلسي أن تتحدى الاميركي وتخرج من عباءته وتنسحب دون إشارة خضراء من البيت الأبيض؟.
في الواقع لا تنظر تركيا اليوم كما السابق لمكانة أميركا العالمية خاصة مع صعود فكرة التعددية القطبية وبروز روسيا والصين وفقدان أميركا لهيبتها الأحادية في التحكم في العالم، ولا يبدو أيضا أن واشنطن قادرة كما السابق على إحكام قبضتها على حلفائها، ففي الوقت الذي يتحدث فيه أردوغان عن مصالحة مع سورية لا ترضي أميركا، تخرج السعودية لتعلن بعد انضمامها للبريكس عن توقف العمل باتفاقية عام ١٩٧٤ المتضمنة بيع النفط بالدولار فقط ما يشير الى بداية حقيقية وفعلية لنهاية هيمنة العملة الاميركية على اقتصاد العالم.
وهو خبر سار للسوريين الذين يعيشون حربا اقتصادية بدأت بالعقوبات الغربية ولن تنتهي طالما ان اميركا تحتل مناطق النفط والغاز والخزانات الغذائية للشعب السوري وتقوم بنهب ثروات البلاد والركل على معدة السوريين بقوانين قيصر وغيرها.
وما تقوله التقارير التركية عن احتمالية انسحاب الاحتلال الأميركي من الأراضي السورية بعد انسحاب تركيا بحجة التفرغ للمعركة العالمية مع الصين، إنما هو النهاية الفعلية للحرب الاقتصادية على سورية وقد تكون المؤشرات على حتمية الانسحاب الاميركي من سورية أكثر بكثير من دلالات البقاء على الرغم من ان الخسارة الاميركية كبيرة أمام الخصوم الدوليين كروسيا والصين في ساحات التنازع معهما التي تمتد من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا وتايون، ولكن ذلك لا يعني خروجا كاملا لواشنطن من الشرق الأوسط ولا حتى من الملف السوري، ويجد بعض المحللين بأن هناك مؤشرات كثيرة على أن الاحتلال الأميركي آني وتكتيكي وليس خطة استراتيجية.
في الميزان .. مؤشرات الانسحاب الاميركي من سورية تغري أردوغان..
بحسب مصادر ودراسات إعلامية فإن تضارب التصريحات بين المسؤولين الاميركيين حول البقاء أو الانسحاب من سورية يعد مؤشرا على النقاش حول هذه النقطة الجدلية، وكلنا يذكر كيف قال الرئيس الاميركي دونالد ترامب سننسحب علنا ثم خرجت من اللوبيات الصهيونية الأصوات المعارضة والتي كان منها الرئيس جو بايدن، كما أن ما حدث خلال شهري تشرين الثاني وكانون الاول من عام ٢٠٢٣ يدل على تذبذب البقاء الاميركي غير الشرعي في سورية، خاصة ان الكونغرس اتخذ قرارا بتقييد النفقات العسكرية لجنود الاحتلال الاميركي في سورية وحول الميزانية المخصصة من ميزانية سنوية الى ميزانية تمدد كل ثلاثة أشهر ما يعني ان تقييم البقاء الاميركي شهري وليس بعيد المدى، بالإضافة ورغم استهداف المقاومة للاحتلال الاميركي خاصة خلال العدوان الإسرائيلي على غزة لم يكن هناك حسب التقارير أي تطوير او زيادة للأسلحة والجنود الأميركيين في سورية، بل على العكس نشر مركز الاستخبارات المفتوحة لمراقبة الصراعات في جميع أنحاء العالم الخبر التالي نقلاً عن العديد من مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية: أن في كل ضربة توجهها المقاومة كانت تجري الاستعدادات لانسحاب كلي أو جزئي للقوات الأمريكية وقوات التحالف من شمال شرق سورية والعراق بسبب هذه الهجمات، فالأولوية هي حماية كامل أفراد الجيش الأمريكي من العودة بتوابيت الى اميركا حيث تخشى واشنطن من اندلاع حرب إقليمية تورطها بها “إسرائيل” بعد عملية طوفان الأقصى في غزة.
كما ان ما بدأ بين بغداد وواشنطن مطلع هذا العام من محادثات تهدف لإنهاء ما يسمى مهمة التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق، وكيفية استبداله بعلاقات ثنائية، حيث (تنشر الولايات المتحدة ٢٥٠٠ جندي اميركي في العراق بحجة المشورة ومساعدة الجيش العراقي في حربه ضد داعش) تكشف هذه المحادثات عدم قدرة أميركا على استمرار الاحتلال في سورية فمن يسحب آلاف الجنود لن يبقي على المئات منهم تحت ضغط وضربات المقاومة، خاصة ان ما تسمى قاعدة عين الأسد الاميركية في العراق تعد مركز دعم لوجستي وأمني لجنود الاحتلال الأمريكي في سورية.
وهناك ايضا مؤشرات تكشف عن سياسة الانكفاء الاميركية، فكما خرجت اميركا من افغانستان من الواضح انها ستخرج من العراق وسورية حيث تميل الإدارة الاميركية بعد خساراتها الواضحة الجزر بدلا من التمدد.
بأقل الخسارات لأميركا وأكبرها لـ “قسد وإسرائيل”..
لا شك أن خسارة واشنطن ستكون واضحة بالانسحاب كما كانت مكاسبها واضحة من الاحتلال في سورية وإن لم تصل لأهدافها الا انها أضعفت الاقتصاد وأوقفت عجلته وخروجها يعني التعافي الاقتصادي للسوريين على الرغم من ان واشنطن ستعيق من بعيد اي حل سياسي في سورية وستحاول البقاء في نطاق التأثير والتجميد لأي حل فهي لم تسعى يوما لإحلال السلام في اي مكان، ولكن بالتأكيد الخاسر الأكبر من انسحابها سيكون “إسرائيل” ومن ثم قسد وهو مقصد اردوغان الذي لا يجد ان حلف الأطلسي قدم له بحضوره وتوريطه بالأزمة السورية وملف المهجرين وتنامي الوهم الانفصالي لما يسمى “قسد ومسد” وغيرها بقدر ما سيقدم له رحيلها اي رحيل الداعم الاميركي ميدانيا عن المشهد وليس سياسيا.
لهذا يقفز الإعلام التركي خطوات الى المصالحة ولهذا ايضا لن تصل يد دمشق الى الطاولة الدبلوماسية مع أنقرة قبل ان يخرج جيش اردوغان الذي احتل جزءا من الأراضي السورية.