منذ فجر التاريخ والإنسان يرتبط بِالطبيعة ارتباطاً وثيقاً، وقد وجد فيها مصدراً للغذاء، والمأوى، ومصدراً للإلهام، والإبداع، ويعيش في وئام معها.. لكنه مع مرور الوقت، وشيئاً فشيئاً أخذ يبتعد حتى ابتعد عنها اليوم بشكلٍ كبير، تاركاً وراءه جمالها، وسحرها، متناسياً أنها ليست مجرد منظر جميل يستمتع به بل إنها ضرورة أساسية لحياته.
ويذكر جيلنا، وأجيال أخرى سبقتنا من زمن مضى، أننا عندما كنا صغاراً، والحياة تنسج خيوطها ببساطةٍ منسجمة مع فطرة الوجود، كيف كانت النزهات البريئة إلى الطبيعة بمثابة مغامرة منتظرة.. ونزهة إلى الحديقة تُغني الروح، وتُنعش الجسد. كنا نركض وراء الفراشات، ونراقب النمل وهو يحمل طعامه، ونقرأ في كتاب في ظل شجرة وارفة، ونقفز فوق الصخور، ونتشارك في ألعاب جماعية مبهجة متناسين همومنا الطفولية الصغيرة، كل ذلك دون الحاجة إلى ألعاب إلكترونية، أو أجهزة ذكية. نستعيد تلك الذكريات، ونرى أنفسنا صغاراً ما زلنا نكتفي بنزهة إلى شاطئ البحر لنشعر بالسعادة الغامرة.
أما الآن فقد تغيرت الأحوال وتبدلت، وازدحمت الأماكن بالمنتزهات الترفيهية الضخمة التي تقدم تجارب مبهجة، وجديدة، وصارت خيارات الترفيه لا حصر لها. ولكن، هل تغيرت معها سعادتنا فأصبحنا أكثر سعادة؟ هل وجدنا في هذه المنتزهات ما يُعادل تلك النزهة البسيطة؟.. في الحقيقة أننا فقدنا شيئاً هاماً مع ازدحام الحياة، وتطورها، وهو شعور السلام العميق الذي يأتي من الاتصال مع الطبيعة، وذلك الإحساس بالسكينة، والهدوء الذي تقدمه لنا. ففيها نجد أنفسنا بعيداً عن ضوضاء المدينة وصخب العيش فيها، لنصبح أكثر وعياً بجمال العالم من حولنا، وننسج ذكرياتٍ تدوم عمراً.
في ظل عالم مليء بالخيارات الترفيهية المتنوعة، وحياة سريعة، ومعقدة، بينما الحياة البسيطة آخذة في الذبول بعدما غيبتها التقنيات وأفسدت سحرها، ربما أصبحنا بحاجة إلى إعادة النظر في أولوياتنا.. فالتكنولوجيا التي غدت رفيقة دائمة لنا نحمل أدواتها أينما ذهبنا كان من المفترض أن تسهل علينا حياتنا، وتوفر لنا مزيداً من الوقت للتمتع بالجوانب الجميلة للحياة ذاتها، لكنها أصبحت عبئاً ثقيلاً علينا، فنحن نقضي معظم الأوقات مع الأجهزة، وتطبيقات البرامج الإلكترونية الجديدة، ومواكبة التغيرات التقنية تاركين وراءنا العالم الحقيقي بكل ما فيه من سحر، وتجارب، وفي استغناء تامٍ ربما عن العلاقات الإنسانية الواقعية لنكتفي بما تقدمه لنا موائد الرقمية.
كذلك أيضاً هو حال الصغار اليوم وقد أصبحوا أسرى شاشات الهواتف الذكية، وأجهزة الكمبيوتر اللوحي، تاركين وراءهم بساطة اللعب في الهواء الطلق، أو استكشاف كنوز الطبيعة، أو الاستمتاع برائحة الزهور في حقولها، بعد أن حلّت ألعاب الفيديو محلّ النشاط البدني، وأصبحت زيارة مواقع الأفلام للمشاهدة، والتطبيقات الإلكترونية تلتهم أوقات فراغهم، بينما يزداد ابتعادهم عن واقعهم، وعن الحياة الطبيعية التي يجب أن يحيوها، فتخبو لديهم روح المغامرة، وتتراجع منهم مهارات التفاعل، والذكاء الاجتماعي.
إن العزلة عن الطبيعة، وخفوت المغامرة فيها يشكل ظاهرة لها سلبيات جمة ليس على نموّ الأطفال، وتطورهم فقط بل حتى على الكبار.. والابتعاد عنها بات يسهم بدوره في عدم احترام البيئة، وفي قتلها عندما يصبح أغلبنا ليس متحمساً لها بما يكفي لدرء كارثة المناخ العالمي التي تتسع فجوتها عاماً تلو آخر.
وكما أفسد الإنسان علاقته بجمالية البيئة، ومتعتة بما فيها من تنوعٍ، وثراءٍ، مستخدماً تقنياته الحديثة، وعمل على أن يقنع نفسه بمنتزهات الترفيه المصنّع الذي ابتكره، وفي مدنٍ للملاهي والتسلية، فها هي التقنيات ذاتها بالتالي تفسد عليه حياته بما يكفي لتكون عنصر إلهاء قوي له عن التواصل العفوي مع ما حوله.. ولتكون صناعاتها سبباً لا يستهان به في تلويث الأجواء، والمساهمة في ارتفاع نسبة الاحتباس الحراري، وسوء المناخ.
فهل نحن بانتظار مغامرة جديدة يمعن فيها الإنسان في الابتعاد عن ينابيع الحياة حتى لا يعود يكترث لكل ما يتهدد البيئة، وبالتالي يهدد وجوده فوق هذه الأرض؟
