في أهمية تأنيث المكان

الملحق الثقافي- عبد الحميد غانم:
قبل الدخول في جدلية قول ابن عربي «المكان إذا لم يؤنّث.. لا يعوّل عليه»، نطرح هذا السؤال:
ماالذي يدفعنا إلى الكتابـة؟.. نفسه الذي يدفعنـا إلى الحيـاة.. الكتابة محاولة جمالية مهمة لتسويغ الحياة، والذهاب بعيداً، وعميقاً من أجل تحقيق المعنى، وتوصيف اللحظة الأكثر إشـراقاً، في تحولات الإنسـان، وحيواتـه الضاجة بالكثير من الأخيلـة، والمعاني، والأشيـاء التي تعطـل جاهزيـة التواصـل .. الكتابـة هي نشـاط معرفي، واقتـراب مجيد من روح الإنسـان، وأحلامه، وأمانيه، وسعيـه الحثيث للعيش بعيداً عن العتمة. وضبابية الرؤيـة، الكتابة بهذا المعنى تكـون هي الحياة في تجلياتها المعرفية، وتحولاتها العقلانيـة، وبروقها الحداثية، التي تطرح الكثير من الأسئلـة الحارقة والجارحة، في سيـاق المعطى العام، الذي يعزز مدماك الحياة، ويعطيها سمت التواصل، والتناغم، قول «محي الدين بن عربي» بمدلوله الظاهري، الأكثر بساطة، ودون محاولة الخوض في التأويلات التي يتقبلها النص الصوفي، ضيِّق العبارة.. والغني في الوقت نفسه بالرؤى والمعاني والإيحاءات.
الوجه الظاهر في قول ابن عربي، أن المكان لا يتحقق بذاته كمكان إذا ظلّ مفتقداً إلى الحضور الأنثوي الذي يسبغ عليه روحاً من روحه.
فغياب المرأة عن المكان هو غياب للمكان عن نفسه، عن روحه وجاذبيته، فلا يكتسب المكان معناه دون أن يتأنّث.. أليست تاء التأنيث التي تؤنِّث المكان ترتقي بقيمته إلى مرتبة.. المكانةّ؟.
أهمية المكان من المكانة.
«غابرييل غارسيا ماركيز» يقارب هذا الموضوع إذ يتحدّث عن تكرار دخوله مكاناً يغص بالرواد، فيبحث عن تلك الزاوية التي يمكنه منها رؤية الأنثى، أي المرأة الأكثر جاذبيّة في المكان، دون أن تكون بالضرورة الأكثر جمالاً.
إنه لا يفعل شيئاً سوى التمتع بتلك السعادة الغامرة التي يبعثها فيه الحضور الأنثوي، وجاذبيّته التي تحلِّق في الروح، وفي فضاء المكان الذي يتأنّث بذلك الحضور.
الجلسات والسهرات الذكوريّة تبقي جافة وكئيبة، إذا خلت من وجود المرأة التي تضج بها العديد من الأمكنة، في الكثير من الزوايا الرجوليّة التي تزخر بها مجتمعاتنا العربية. وكذلك الفكر والثقافة.
وكلنا يذكر، أن لا شيء ينقذ تلك الجلسات من بؤسها ويبابها، سوى استحضار أطياف النساء إليها، والغرق في الحديث عن المرأة وفتنتها، وربما دورها كطريدة أصابتها سهام ذكورتنا القاتلة. عندئذٍ، فقط، يتسنى للمكان أن يتأنث، أي أن يصبح عالماً محتملاً وأكثر جمالاً، ولو بالحضور الشفاهي لتلك الأطياف البهيّة.
بالمقابل، فإن الحديث عن تذكير المكان، أي عن الإحساس بالحضور الذكوري فيه أو غيابه عنه، هو مسألة أنثوية بالتأكيد. غير أن النفي القصدي لذلك الحضور، أو الانسحاب الأنثوي من المكان المذكّر من أجل خلق المكان خالص الأنوثة وشديد النقاء من أي تعكير ذكوري، هو مسألة أخرى، قد تدخل، على الأقل، في حقنا الإنساني المشروع في الدفاع عن منطق الأشياء وتآلف الكائنات، وهو المنطق الذي يبتعد عن خوض المعارك الجنسوية التي تبدد الطاقات وتجرح العاطفة.
تجربة الشاعرة اليونانية «سافو»، التي عاشت خلال القرن السابع قبل الميلاد، في الانسحاب نحو خلق المكان المؤنّث، تستحق الإشارة في هذا السياق. فقد عرفت تلك الشاعرة بأنها أقامت أول مستوطنة بشريّة أنثوية في جزيرة «ليسبوس» في الأرخبيل اليوناني، والتي اقتصر العيش فيها على النساء فقط.
بيد أن ما بقي من سافو، ليست تلك التجربة الغريبة التي لم تعط إلاّ علم النفس الحديث المعني بالعلاقات الجنسيّة اسم جزيرتها، فخلّدها حين منحه لواحد من أشكال العلاقة الجنسيّة بين جنس واحد، ولكن تلك القيمة الإبداعيّة الكامنة في شعرها العاطفي الدافئ ومفرط الحساسية، الذي منحها وصف ربّة الفن العاشرة، وارتقى بشاعريتها في نظر البعض إلى مستوى هوميروس.
وثمّة تجربة عربيّة تكاد تقارب تجربة جزيرة النساء في ليسبوس، قامت على المستوي السياسي العربي، وهي تجربة سيدة مصريّة دريّة شفيق، التي أقامت، في نحو منتصف القرن العشرين، حزباً سياسياً اقتصرت عضويته على النساء. ورغم أن الذاكرة السياسيّة العربيّة، من المحيط إلى الخليج، لم تعد تحفل كثيراً بتلك التجربة الفريدة لتلك المرأة، فإننا نذكرها من قبيل التأكيد على فشل تجارب التأنيث المكاني، المتميِّز بنقاء الدم الأنثوي، لأن العمل السياسي لا يتقبل بطبيعته مثل هذا الفصل الجنسي التعسفي. وتأكيداً على ذلك، أن كلمة «حزب» لا تتقبل دخول تاء التأنيث إليها
«المكان إذا لم يؤنّث لا يعوّل عليه». والمكان المتميِّز بنقاء الدم الأنثوي، لا يعوّل عليه أيضاً.
ولا يبقى سوى المكان الذي نرتجيه في كلّ زمان، وهو مكان تغيب عنه صيغ التفضيل الجنسويّة، وصراعات الذكورة والأنوثة، ومحاولات تغييب الجنس الآخر.
                        

العدد 1194 – 25 -6-2024     

آخر الأخبار
حوار جامع ومتعدد أرباحه 400%.. الفطر المحاري زراعة بسيطة تؤسس لمشروع بتكاليف منخفضة المحاصيل المروية في القنيطرة تأثرت بسبب نقص المياه الجوفية الخبير محمد لـ"الثورة": قياس أثر القانون على المواطن أولاً قوات الآندوف تقدم خمس محولات كهربائية لآبار القنيطرة إحصاء أضرار المزروعات بطرطوس.. وبرنامج وصل الكهرباء للزراعات المحمية تنسيق بين "الزراعة والكهرباء" بطرطوس لوقاية الزراعة المحمية من الصقيع ٥٥ ألف مريض في مستشفى اللاذقية الدوريات الأوروبية الإنتر وبرشلونة في الصدارة.. وويستهام يقدم هدية لليفر روبليف يُحلّق في الدوحة .. وأندرييفا بطلة دبي مركز متأخر لمضربنا في التصفيات الآسيوية هند ظاظا بطلة مهرجان النصر لكرة الطاولة القطيفة بطل ودية النصر للكرة الطائرة مقترحات لأهالي درعا لمؤتمر الحوار الوطني السوري "أنتم معنا".. جدارية بدرعا للمغيبين قسراً في معتقلات النظام البائد جيني اسبر بين "السبع" و"ليالي روكسي" هل نشهد ثنائية جديدة بين سلوت (ليفربول) وغوارديولا (مان سيتي)؟ مواجهة مرتقبة اليوم بين صلاح ومرموش تعادل إيجابي بين الأهلي والزمالك دراما البطولات (التجميلية)