الملحق الثقافي- ديمه داوودي:
«بعض النساء الذين منعن من الركض سيلدن فتيات بأجنحة يطفن العالم» قد يختصر هذا الاستهلال طبيعة مآلات النص النسوي بالرغم من أنه لا اختلاف في اللغة بمفهومها العام بين الرجل والمرأة، فالمفردات والتعابير والتراكيب متاحة لكلا الجنسين إلا أن المرأة قد تكون الأقدر على التعبير في بعض المواطن كونها خلقت بالفطرة معجونة بالمشاعر بحكم طبيعتها الفيزيولوجية، ما يجعلها قادرة على إيصال الكلمات عبر مشاهد تلامس شغاف القلب سواء عبر السرد أم بلسان الشخصيات التي قد تجسد رجلاً أو امرأة أو طفلاً أو حتى شخصية متخيلة بل استطاعت الكاتبة الأنثى من تجسيد عالم الجريمة كالكاتبة أجاثا كريستي على سبيل المثال، وهو أمر ربما يعتبر غريباً نوعاً ما، فكيف لامرأة معجونة بالأحاسيس أن تغرق في هذه التفاصيل الدموية.
إلا أن قاموس المرأة يختلف قليلاً عن قاموس الرجل وسط منظومة متعددة الحدود تشمل الأدوات الفكرية والأسلوبية والحياتية وكيفية التلقي، وكل هذا تكون من الطريقة التي تحاكم بها المرأة الفكرة فتخرجه بشكل «نص» ومفردات وأفكار ومعتقدات
هنا النص الأدبي «المؤنث» ينافس النص الأدبي المذكر، وقد يتفوق عليه حتى بلسان نفسه الآخر «المذكر» – إن رضينا بهذه التفرقة الأدبية – فالدراسات تؤكد أن المرأة تتكلم أكثر من الرجل، وأن دماغها يعالج الأمور، ويتلقى الكلمات، ويحاكمها بشكل مختلف عن الرجل، وهي قادرة على القيام بعدة أعمال في آن واحد، هكذا هي تلافيفها الدماغية، ولكن مع كل هذا ففي الوسط أدباء كتاب من الرجال تفوقوا بتعبيراتهم وكتاباتهم على ما كتبته المرأة بالرغم من أن الصبغة الأنثوية في النص أياً كان نوعه تأتي مفتوحة الأفق غير مؤطرة، وربما هذا ما يجعل النص الأنثوي في تحد دائم مع النص الذكوري من حيث البلورة النهائية بل حتى في تحد مع نفسه، فبحكم طبيعة الأنثى يأتي النص متطوراً وفق التأثيرات التي مرت بها المرأة عبر عصور واختزنها الدماغ ليخرجها وفق معايير وتعابير وتراكيب وصور ومفردات وكلمات وفروقات ورمزيات تختلف في الأسلوب من كاتبة إلى أخرى، وهذا ما يمكن أن نسميه «النفس» نفس الكاتب أو الكاتبة وهو مايشبه نفس الطاهي أي إننا لو اخترنا محوراً محدداً وجملاً بعينها، وطلبنا من مجموعة كاتبات وكتاب أن ينجزوا منها عملاً لوجدنا جذر الاختلاف بالرغم من اتفاق الجميع على الفكرة.
فهناك من سيكتب قصة أو سيناريو وستختلف طرق التعبير لايصال هذه الفكرة. ولو طلبنا من الجميع التقيد بكتابة قصة قصيرة حول ما اخترنا من جمل أيضاً فسنجد الاختلاف لأن «النفس» المختلف هو ما يميز بصمة الكاتب والكاتبة.
علماً أن الكاتبة في اللاوعي لاتعي أنها تكتب كامرأة ولاتتعمد ذلك ولا تعرف ضمناً أنها تحاكم الأمور والمجريات وسياق النص كامرأة، وهذا ما أكدته الكاتبة «شارلوت برونتي» بعد نشرها روايتها «جين إير»عام 1847 والتي انقسمت إلى 40 فصلاً وكانت طبعتها الأصلية في مجلدات ثلاث ما يتناسب مع فكرة الرواية ونظام النشر حينها إذا تمردت الكاتبة وشرحت حيثيات عديدة منها الظلم الاجتماعي وحقائق غير واضحة حول النظام الاحتماعي والديني حينها، كما أكدت «برونتي» أنها لاتهتم حين تكتب بماهو أنثوي ولاتفكر فيه من منطلق أنها امرأة ولا تهتم للمعايير التي وضعها النقاد لتقسيم الأدب بين أنثوي وذكوري أو بالأصح فصل الكتابة النسوية عن الأدب كنوع متفرد.
وقد تطور هذا المفهوم منطلقاً من الساحة الأدبية الإنكليزية في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي ليبلغ عدد الكاتبات بين 1830 و 19 وما فاق أكثر من ثلاثمئة رواية حتى العقد الثالث من القرن العشرين، هذا ما يعيد للذاكرة فكرة إنشاء مصطلح الأدب النسائي لكن هل للنص النسائي أن يتوالد في الساحة الذكورية ويولد مشاعر وأفكاراً ويفتح سبلاً أمام القارئ والمتلقي؟
وخاصة بعدما تطور الفكر الإنساني بشكل إعجازي بعيداً عن تعقيدات المجتمعات ومعتقداتها إذ خرجت من قواقعها لتتراقص على الأوراق والشاشات ومساحات الانترنت وربما هذا ماعبرت عنه الكاتبة رباب هلال في مجموعتها القصصية «تلك المرأة.. تلك النار» إذ قالت:
«الرجل.. مطلق رجل.. ليس عدوي.. والرجل.. أي رجل ليس محرري قط.. كلانا مستعبد وينشد التحرر.. وحدها الكتابة تحررني»
إذاً لا داعي لأن نحاكم النص بناء على جنس من كتبه بل على ما احتضنه النص من إمكانيات أدبية ومدى بلاغته.. فكثير من الكاتبات المقتدرات على استعداد لطرح نصوصهن دون ذكر اسم ولتتم مناقشته ومحاكمته وفق ما ورد فيه وكذلك كثير من الكتاب يفعلون الشيء ذاته وليكن المتلقي هو الحكم بين قيمة إعمال النص في الجوانيات النفسية ومدى تأثيره ومدى مرارته وحلاوته وأهدافه..
وهنا لابد من ذكر الحادثة بين جوركي وتشيكوف وتولستوي، إذ كتب تشيكوف مبدياً إعجابه بموهبة تولستوي ليرد جوركي :»في كأس المرار الذي تجرعته لم أشرب غير قطرتين من العسل، قطرتك وقطرة تولستوي»
إذن على النص أن يتوالد ويفرض نفسه في الذاكرة والنفس مع إفال جنس من كتبه، فالنص الذكوري لا قوامة له على نص أنثوي ولا مساواة بين نص أنثوي وذكوري، فالنص بحد ذاته عالم قائم المعالم وليحاكم بناء على ذلك.
«ولنحتج جميعنا بالكتابة ولنعبر بها ولنخلق عوالم أفضل ولنوثق أفراح وانتصار عروبتنا وكما قالت الكاتبة رباب هلال بلسان بني جنسها وبلسان الرجل أيضاً فكتب بلاسان الأديب «أحتج بالكتابة.. أرفع صوتي لكل ما رسم لي باستقامة أشتبه بها، دون أن تغويني شهوة الانتقام للانتقام»
لنكتب وتبض أقلامنا حياة بنصوص لا تخجل من هوياتنا لكنها تخلو تصنيف جنسها الأدبي فهي كيان متفرد بحد ذاته.
العدد 1195 –2 -7-2024