الثورة – ديب علي حسن:
عندما أعلنت نازك الملائكة عن اكتشافها ما سمته في البداية الشعر الحر أو المرسل كانت تعلن تطوراً نضج بعد قرون من الاختمار في بوتقة التجارب، ولم تكن تعلن ما نراه اليوم عند بعض أدعياء الشعر ممن يرصفون الكلمات ويدعون أنه شعر.
قلة قليلة صانت لنا عمود الشعر وألق الشعر العربي الأصيل الذي لا يتخلى عن الحداثة أبداً، بل يتضمن موضوعات الحياة كلها.
وبحور الشعر لم تضق بالموضوعات كما يدعي البعض.
الشاعر جميل حداد في دواوينه التي وصلت السبعة شاعر من طراز رفيع.. يمضي في موكب الخليل وبحوره الشعرية ويقدم في كل ديوان وكل قصيدة الدليل على أن الشاعر الحق لا تضيق أمامه بحور الشعر ولا اللغة ولا البلاغة أبداً، بل هو القادر على أن يبحر كيفما شاء فيها أليست بحوراً؟
وهل ضاق البحر يوماً ما بزورق أو سفينة، وحدهم من لا يجيدون السباحة أو القيادة يعرفون، ولذا يهربون إلى ماء غير عمق.
جمال حداد في دواوينه التي رقم قصائد كل ديوان تجد القصيدة ذات الهم الاجتماعي والوطني والإنساني يلتقط جمال الحياة فرحاً ويعيده إلينا كوكباً من ألق الإبداع.
يحزن لآلام الناس يبوح بكل مكنوناته وهو الإنسان الإنسان قبل أي شيء آخر.
ولا قيمة لأي إبداع إذا لم يكن من الناس وللناس.
في دمشق حين يزورها تتوهج الذات الشاعرة وتتفتح لا يكاد يستريح دقائق في مكتبه زواره من كل حدب وصوب وهو الزارع جمالاً وخيراً.
يدهشك حزنه حين يغادر دمشق عائداً إلى حيث عمله..
هي عودة حزينة كما يقول.. ولكنها كانت ثراء إبداعياً قل نظيره يقول في قصيدة تحت عنوان:
العودة الحزينة
(من دمشق)
تركت قلبي وصوتي في شوارعها
وعدت أحضن أحزاني أواسيها
إن كان لي أمل اللقيا يداعبني
فإنه سيد الأحلام يحميها
مدينة الشوق لا حزني يساعدني
لا ولا فرحتي طالت لياليها
كما لقيتك بات الرمس في كبدي
فيه المرارة ترثيه ويرثيها
ما كان في خاطري أن الوداع لها
يدمي القلوب وينعي كل ما فيها
قلبي تركته في أحضان مؤتمن
حتى أعود ألاقيه ألاقيها
مهلاً دمشق فلا بعد يفرقنا
لا ولا شعلة الأسواق نطفيها
فأنت مرجانة الدنيا وبهجتها
وفيك طاب العلا من فضل باريها
والحب بيننا عهد لا انفصام له
حتى ولو عاش في الدنيا مآسيها
ولأن دمشق صانعة التاريخ وصوت الناس وحامية الأرض والعرض ولأن الشاعر ابن هذا التراب المعطر بالدم ابن الأرض السورية التي تعني العروبة يتغنى بالأرض ويومها ويدعو إلى اليقظة والنهضة وكأني به يذكرنا بصيحة اليازجي تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب.
وكأنه أيضاً كان يقرأ أن خلف الغيوم طوفاناً ويبشرنا بالقادم وها هم أهلنا في فلسطين ينتفضون:
أي أرض نحيا عليها كراما
أي قوم نهدي إليهم سلاما
يوم أرض يمضي وعرض مباح
فيه نشدو والناس باتوا نياما
بارت الأرض والذين عليها
باتوا فوق التراب ثكلى يتامى
كيف نحمي فخراً بأرض تروت
بدماء الأحرار والحق ناما
عبثوا بالتراث ثم استباحوا
يسألون التراث كيف استقاما
لا ألوم التاريخ إنه جان
فجناة التاريخ كانوا قدامى
أرضنا لا تهون عند بنيها
وبنوها ما كذبوا الأحلاما
حكمونا وأشبعونا نضالاً
ثم لاذوا فأتخمونا كلاما
رب يأس يولد البأس يوما
رب بأس يصح فينا إماما
سيدك التاريخ أوكار قوم
صنعوا الذل واستباحوا الحراما
قولة المجد في شفاه شباب
علمونا بأن نعيش كراما
علمونا بأن أرضنا تبقى
رمز أمجادنا قعودا قياما
وستروى بعلا وسقيا بفخر
من دم الطهر حين صلى وصاما
وتدوس الأقدام رتل الحيارى
ويعود التاريخ برداً سلاما.
بطاقة ..
جميل حداد الشاعر الملهم بدأ كتابة الشعر في السبعين من العمر وتدفق فراتاً عذباً بكل ما فيه، أمد الله بعمره آخر الشعراء الكبار الذين أثبتوا أن بحور الخليل هي باتساع الكون والشاعر لا يكون شاعراً إذا لم يكن قادراً على الإبحار فيها بمهارة.
وأن الحداثة لا يحدها الشكل الفني أبداً، بل مهارة وموهبة الشاعر.
في جعبة شاعرنا سبعة دواوين لاقت صدى طيباً لدى القراء والنقاد.. وكان آخرها ديوان السنابل السبع.