رشا سلوم:
شاعر أميركي من طراز رفيع ترك أثراً كبيراً في المشهد الإبداعي العالمي كله.
وما من لغة إلا وترجمت أعماله الشعرية أكثر من مرة ولاسيما أوراق العشب. فعندما كان والت
يعمل في سكرتارية المكتب الهندي بوزارة الداخلية الأمريكية، صدر له ديوان أوراق العشب فقام الوزير بطرده على أساس أنه عمل غير أخلاقي، لكن الكتاب والمثقفين لم يتحملوا هذه الإهانة التي لحقت بالشاعر الكبير، فكتب وليام أوكونور كتاب الشاعر الشيخ الصالح عام 1866، وفي عام 1867 أصدر جون باروز كتابه ملاحظات على والت ويتمان الشاعر والإنسان.
في العام 1873 أُصيب بنوبة شلل وأثر ذلك على كتاباته، وغيرت من فكره إلى حد ما، لقد تحول أسلوبه الواقعي المباشر إلى صور التلميح والتجسيد الفني المركب، وتبدلت فلسفته التي تعتبر الكون مادة واحدة، لتصبح مثالية روحانية يغلب عليها التصوف، كما تغيرت آراؤه السياسية من الفردية إلى القومية، بل حتى العالمية، وهبطت درجة حماسه المطلقة للحرية الفردية إلى تأييد مطلق للنظام الذي يتحرك المجتمع في إطاره.
وفي إطار الترجمة إلى العربية قامت دار التكوين من جديد بترجمة أوراق العشب
ترجمها وقدم لها د. عابد إسماعيل.
يرى المترجم أن ثمة تناغماً سيمفونياً بين حياة ويتمان وشعره يجعلنا لا نتردّدُ لحظة في النظر إليه كمؤرّخٍ للرّوح الأمريكية الجديدة وناطقٍ شعريّ باسم إرهاصاتها الفكرية الكبرى خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. على غرار هوميروس اليوناني، ودانتي الإيطالي، وشكسبير الإنكليزي، أو ربّما شاعرنا العربي، المتنبي، ارتبط اسم ويتمان ارتباطاً وثيقاً بنبض عصره، وبالأمّة التي نشأ فيها، والثقافة التي ساهمت في بلورة وإغناء مخيلته الشعرية. يصفه الروائي الإنكليزي د. ه. لورانس بأحد أعظم الشعراء في العالم، قائلاً: “ويتمان، الشّاعرُ العظيمُ، يعني الكثير لي. ويتمان، ذاك الشّخص الذي ينطلق إلى المقدمة. ويتمان، ذاك الرائدُ. وحده ويتمان. لا يوجد روّاد إنكليز أو فرنسيون. لا يوجد شعراء أوروبيون روّاد. في أوروبا، من كانوا يريدون أن يكونوا روّاداً ليسوا سوى مجدّدين. والشّيء ذاته في أميركا. أمام ويتمان، لا شيء. أمام جميع الشّعراء، موغلاً في براري الحياة المغلقة، هو ويتمان. بعده، لا أحد.”
ؤ
أيّها الكونُ المستديرُ، المتدحرجُ أبداً! عبر الفضاء والهواء!
أيتُها المياهُ التي تغمرنا!
أيتُها القوّةُ الحيويةُ في حياتنا ومماتنا، في عملنا ونومنا!
أيتُها القوانينُ الخفيةُ التي تتحكّم بنا، وبكلّ شيءٍ آخر،
أيتُها المبثوثة في ثنايا كلّ شيء، وفوق كلّ شيء،
وعبر وتحت كلّ شيء، بلا توقّفِ!
أنتِ! أنتِ أيتُها القوّةُ الكونيةُ، الحيويةُ، العملاقةُ، الهادئةُ،
التي لا تُقاوَمُ، ولا تنامُ،
تحملين الإنسانيةَ على كفّك، كمثل لعبةٍ طارئةٍ..
لقد هاجم كل أنواع التعصب والفاشية والديكتاتورية مؤكداً أنه لا ازدهار لأمة إلا بترسيخ الديمقراطية فيها. لُقب بأبي الشعر الحر حيث أنه ضرب بكل القوالب الشعرية القديمة عرض الحائط، فقد تمكن من تحطيم القوالب الأوروبية التي كان يصب فيها الشعر الأمريكي عنوة، ما جعله مجرد تقليد باهت يخلو من عناصر الأصالة التي تنبع من تربة الوطن نفسه. آمن ويتمان بأن الحرية الفردية لن تجد متنفساً لها إلا في الحب، على حين تتمثل الحرية الاجتماعية في الديمقراطية، وأن الحب والديمقراطية وجهان لعملة واحدة هي المجتمع الإنساني كما يجب أن يكون. وكانت عينه على الحياة الأمريكية، في حين تتبعت عينه الأخرى الحياة في كل مكان. وهو يرى أن الشاعر هو ضمير أمته، من ثم لا يمكنه النظر خارج حدودها لاستلهام الوحي، وأن الطريق إلى العالمية الإنسانية لابد أن يمر بالإقليمية المحلية. ثم حدث تغيير في فكره بعد إصابته بالشلل عام 1873.
أثره في الأدب العربي الحديث
في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان العالم العربي يعيش فترة تحوّل هامة على مختلف بناه الثقافية، وكان الأدب العربي – لا سيما الشعر- يشهد محاولات جادة لإخراج الشعر من أسر الصناعة والتقليد التي كبلته طويلاً، وتزعم أمين الريحاني وجبران خليل جبران حركة تجديد الأدب العربي في المهجر. وبحكم وجودهما في الولايات المتحدة وإتقان اللغة الإنجليزية توفر لهما الاطلاع على أعمال ويتمان، وهو ما فتح المجال أمام الريحاني ومن بعده جبران لابتكار نمط شعري جديد أسماه الريحاني الشعر الحرّ، وأطلق عليه النقاد لاحقاً اسم الشعر المنثور أو قصيدة النثر. وقد جمع الريحاني نصوصه التي كتبها متأثراً بويتمان في كتابه هتاف الأودية الذي يعده النقاد أول ديوان في الشعر المنثور في الأدب العربي، وتبع جبران خليل جبران الريحاني في تأثره بويتمان وسار على نهجه.