الملحق الثقافي- مي سعود:
تشكل تجربة الشاعرة نازك الملائكة محطة وعلامة في الأدب العربي الحديث، ولاسيما شعر التفعيلة الذي أخذ شكله الجمالي على يديها بعد أن مر بمخاض صعب، تعددت القراءات في شعرها، ولاسيما الحزن.
حول هذا الحزن، كتب في مجلة العربي الكويتية العدد 532 وقبل المرور إلى ما قاله هذه باقة من أحزان نازك الملائكة:
مججتُ الزوايا التي تلتوي
وراءَ النفوسْ
وراءَ بريقِ العُيُونْ
وأبغضتُ حتى السُّكونْ
وتلكَ المعاني التي تنطوي
عليها الكؤوسْ
معاني الصَّدَى والجُنونْ
معاني الخطايا التي تُبرقُ
بريقَ النجومْ
وفي لمسها اللهبُ المُحرقُ
ولونُ الهمومْ
كرهتُ الجفونَ التي تأسرُ
وخلفَ سماء ابتساماتها
لهيب الحقود
كرهتُ الأكفَّ التي تعصرُ
وخلفَ حرارة رَعْشاتها
جمودٌ كذُلِّ الحياهْ
على جُثةٍ تحت بعض اللحودْ
تعيثُ بها دودةٌ في برودْ
كرهتُ ارتعاشَ الشفاهْ
برَجعِ الصلاهْ
ففي كلِّ لفظٍ خطيئهْ
تجيشُ بها رَغباتٌ دنيئهْ
وعفتُ طُموحي وبحثي الطويلْ
عن الخيرِ, والحبِّ, والمُثلِ العاليهْ
وحقّرتُ سعيي إلى عالمٍ مستحيلْ
فخلفَ انخداعيَ تنتظرُ الهاويهْ
وعفتُ جنوني القديمَ وعفتُ الجديدْ
وأودعتهُ في مكانٍ بعيدْ
دفنتُ به رَغَباتِ البشرْ
وسمّيتهُ جنة الواهمين
ستمضي السنينْ
لماذا أُحسُّ الأسى والضَّجَرْ,
وكفُّ المطَرْ
تلفُّ على عنقي المختنقْ
حبالَ الفِكرْ؟
وأينَ أسيرُ وقلبي النزقْ
هنالكَ مازالَ، لا يبرُدُ
ولا يحترقْ
كقلبِ أبي الهولِ. أين الغدُ؟
أُحسُّ حياتي تذوبْ
قفي لحظةً واحدهْ
ولا تَسحبي يَدكِ الباردهْ
فأغنيةُ الهاويهْ
تُهِيبُ بأقداميَ الشاردهْ
وتَلوي الدروبْ
قفي لحظةً يا حبالَ الحياهْ
ولا تتركيني هنا
معلقةً بالفراغِ الرهيبْ
فأمسي القريبْ
تلاشى على آخرِ المنحنى
وظلُّ غدي
تَلثَّمَ, أُوّاهُ لو أهتدي
قفي لحظةً واحدهْ
ولا تَسحبي يَدَكِ الباردهْ
فأغنيةُ الهاويهْ
تردّدها الأنفسُ الجانيهْ
تكرّرُها في جُنونْ
على سمعيَ المُجهَدِ
تكرّرُها لم يَعُدْ لي سكونْ
أكادُ أسيرُ إلى الهاويهْ
مع السائرينْ
وأدفِنُ آخرَ أحلاميهْ
وأنسى غدي
يرى جهاد الفاضل
على حافة الحضور والغياب، تختار هذه الشاعرة الحزينة أن تعيش خلف حجب من ظلال النسيان، لقد داهمها حزن موجع منذ زمن مبكر، وبالرغم من شغفها بالتجديد والثورة على عمود الشعر القديم والخروج من أردية كل ما هو تقليدي، فإنها لم تخرج من نبرة ذلك اليأس الذي لازمها، كأن أوجاع أمتنا العربية هي أوجاعها الشخصية. إن (العربي) تقدم من خلال هذا المحور تحيتها لتلك الشاعرة المجددة التي أغنت الشعر العربي في مرحلة من أزهى مراحله وأصبحت واحدة من أهم روّاد الشعر الحديث, وتؤكد لها أن الكلمات الطيبة لا تضيع.
لا يرد اسم الشاعرة العراقية نازك الملائكة إلا نادراً في الصفحات الثقافية العربية، وقد ظهرت آخر مجموعة شعرية لها في بغداد في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بعنوان: (يغيّر أمواجه البحر), ولكن لاشك أن الشاعرة تظهر بين وقت وآخر في دراسة أكاديمية حول بدايات الشعر الحر في منتصف القرن الماضي لأنها أسهمت في تلك البدايات إنتاجا ونقدا وتنظيرا. وبحكم غيابها عن الأندية والصفحات الثقافية, فإن الكثيرين لا يعرفون على وجه القطع مكان إقامتها. فهناك مَن يقول إنها تقيم في منزلها ببغداد. وهناك مَن يجزم بأنها تتلقى العلاج منذ سنوات في القاهرة أو عمّان, وإنها سجينة منزلها, حيث تقيم, لا تغادره إلا لعيادة طبيب, وإن هذا الطبيب ليس واحدا بل أكثر, فهو حينا طبيب النفس الحزينة، وهو حيناً طبيب الجسد العاجز المتهدم، وكل هذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن نازك الملائكة لا تتقن، كبعض الأدباء والشعراء فن إدارة أعمالها وتسويق نفسها في وسائل الإعلام المختلفة، وإنها تستحق تبعاً لذلك لقب أسوأ مدير لأعماله في الحياة الأدبية العربية المعاصرة.
روح مشعة
عرفتُ نازك الملائكة قبل ربع قرن تقريباً عندما كنت أزورها في منزلها بالكويت، كانت نازك في تلك الفترة أستاذة للأدب العربي في جامعة الكويت، وكان زوجها د.عبدالهادي محبوبة، رئيس جامعة البصرة سابقاً، يشاركها التدريس في الجامعة نفسها. في تلك اللقاءات، لم تكن الروح قد انطفأت بعد في تلك الشاعرة التي كانت من أجمل الأصوات الشعرية في شبابها، والتي يرى الكثيرون أنها أفضل شاعرة في تراثنا الشعري قديمه وحديثه، صحيح أنها كانت قد لاذت بالتصوّف وبدا في مظهرها ومجلسها أنها في الطريق إلى الاستقالة من النادي الأدبي ومن بقية أندية هذه الدنيا، إلا أن الشعر كان لايزال ينبض في خاطرها، وإن كانت فواجع أمتها العربية قد هزّت سكينة النفس فيها، حتى الساعة مازال صوتها الشجيّ، عالي النبرة، يرنّ في أذني، وهي تتحدث عن الظلم الذي خضع له الفلسطينيون على يد الإسرائيليين المغتصبين، وعن المسجد الأقصى الذي ينادي معتصماً لا يجيب. وعندما رأيتها بعد ذلك في أحد مهرجانات المربد العراقية, وعلى التحديد سنة 1986, لم أصدّق أن هذه السيدة الغارقة في الصمت, هي نفسها تلك العصفورة النضرة التي كان القارئ يرى صورتها وهي شابّة على صفحات مجلات الآداب أو سواها من منابر الأدب وصفحاته. كان ذلك في نهاية إحدى الأمسيات الشعرية, نهضتُ من مقعدي لمغادرة القاعة, ولكن بصري وقع على سيدة أعرفها, ولا أعرفها. حدّقتُ مليّاً في وجهها لأتبين أني رأيت هذا الوجه, ومَن هي صاحبته, فلم أصل إلى يقين, عينان خابيتا الأضواء, وحزن يبسط نفوذه على الشخص بكامله, بل إنك إذا أعدت النظر من جديد, خُيّل إليك أنك أمام سيدة متبلّدة الإحساس وغير واعية لما حولها, ولا علاقة لها بالشعر والأدب, إلى أن أجهدت ذاكرتي واستجمعت شجاعتي فسألتها وقد رأيتها هي نفسها تنظر إليّ كمن عرفتني: (ألستِ الشاعرة نازك الملائكة؟)، فلم تُجِبْ، وإنما الذي أجاب كان زوجها الذي عرفته فوراً وعرفني، ولكنه أجاب عبر نظرات تعبّر أكثر مما يعبّر اللسان، وكان واضحاً أن الشاعرة تخضع للعلاج.
عبثــاً تَحْــلُمينَ شــاعرتي مــا
مــن صبـاحٍ لليـلِ هـذا الوجـود
عبثــاً تسـألين لـن يُكْشـف السـرُّ
ولـــن تَنْعمــي بفــكِّ القيــودِ
فـي ظـلال الصَّفْصافِ قَضَّيتِ ساعا
تِــكِ حَــيْرى تُمضُّــك الأسـرارُ
تســألين الظـلالَ والظـلُّ لا يـعـ
ـلَـــمُ شــيئًا وتعلــمُ الأقــدارُ
أبــدًا تنظــرين للأُفــق المـجـ
ـهـول حـيرى فهـل تجلّى الخفيُّ؟
أبـــدًا تســألين والقَــدَرُ الســا
خــرُ صمــتٌ مُسْــتغلِقٌ أبـديُّ
فيــمَ لا تيأسـينَ؟ مـا أدركَ الأسـ
ـــرارَ قلـبٌ مـن قبلُ كي تدركيها
أســفًا يـا فتـاةُ لـن تفهمـي الأيـ
ـــامَ فلتقنعــي بــأن تجهليهــا
اُتــركي الــزورق الكليـل تسـيِّرْ
هُ أكــفُّ الأقــدارِ كــيف تشـاءُ
مـا الـذي نلـتِ مـن مصارعة المو
جِ؟ وهـل نـامَ عـن منـاكِ الشقاءُ؟
آهِ يـا مـن ضاعتْ حياتك في الأحـ
ـــلامِ مـاذا جَـنَيْتِ غـير الملالِ؟
لـم يَـزَلْ سـرُّها دفينـا فيـا ضيـ
ـعـةَ عُمْـرٍ قضَّيتِـهِ فـي السـؤالِ
هُــوَ سـرُّ الحيـاة دقَّ عـلى الأفـ
ـهـامِ حـتى ضـاقت بـه الحكماءُ
فايأسـي يـا فتـاةُ مـا فُهمـتْ مـن
قبــلُ أســرارُها ففيـم الرجـاءُ؟
جـاء مـن قبـلِ أن تجيئي إلى الدُّنْـ
ـيــا ملاييـنُ ثـم زالـوا وبـادوا
ليـتَ شـعري مـاذا جَـنَوْا من لياليـ
ـهـمْ؟ وأيـنَ الأفـراحُ والأعيـادُ؟
ليس منهـــم إلاَّ قبــورٌ حزينــا
تٌ أقيمــت عـلى ضفـاف الحيـاةِ
رحـلوا عـن حِـمَى الوجـودِ ولاذوا
فــي ســكونٍ بعــالم الأمــواتِ
كـم أطـافَ الليـلُ الكئيب على الجو
وكـــم أذعنــت لــه الأكــوانُ
شــهد الليــلُ أنّــه مثلمــا كـا
نَ فــأينَ الــذينَ بـالأمس كـانو؟
كـيف يـا دهـرُ تنطفـي بيـن كفَّيـ
ـــكَ الأمـاني وتخـمد الأحـلامُ؟
كـيف تَـذْوي القلـوبُ وهـي ضياءٌ
ويعيشُ الظـــلامُ وهْــو ظــلامُ
للصلاة والثورة
وعندما كنا نودع أنا وبعض الأدباء الذين تحلقوا حولنا نازك وزوجها الأديب الرقيق الفاضل, كنا نتحسّر على هذه الشاعرة التي غنّت في ديوانها (للصلاة والثورة) مثل هذا الغناء:
إني أنا عاطرة كالبرعمة
إني أضيء مثلما تشتعل الأقمار
أنير للثوار
درب الليالي المعتمة
أفتح في عيونهم نافذة النهار
أرشّ في أنفاسهم طعم ضياء سائل
أذيب فيه نكهة البهار…
العدد 1197 – 16 -7-2024