الثورة – تحقيق علا محمد:
التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تشهدها مجتمعاتنا اليوم، تُظهر توجهات جديدة تتعلق بمفهوم السعادة والرضا في حياتنا الشخصية، ومن بين هذه التوجهات برزت دراسة حديثة تشير إلى أن العزوبية أصبحت مصدراً للسعادة في عصرنا الحالي، بعد أن اعتبرت لفترة طويلة على أنها حالة غير مرغوب فيها أو حالة مريبة، وكان الزواج هو المفتاح الأساسي للسعادة والاستقرار الشخصي، إلا أن هذه النظرة بدأت بالتغير تدريجياً بفعل العديد من العوامل وأصبح مفهوم العزوبية يلقى قبولاً متزايداً عند شبابنا وخاصة البالغين منهم سن الرشد.
الأمر الذي دفعنا للتعمق أكثر في هذه الظاهرة لمعرفة حقيقتها وأسبابها والآثار الناجمة عنها بدءاً من استطلاع رأي الشباب الذين عبروا بطريقة أو بأخرى عن أنهم سعداء بحياتهم كعازبين..
حلا (36 عاماً) تقول: لا أتحسر لأنني لم أتزوج، بل أرى وضعي أفضل كثيراً من صديقاتي أو أخواتي اللاتي تزوجن، فعندما أراقب مشكلاتهم مع أزواجهن وحجم المسؤوليات والضغوط أجد أن لا يومَ سعيداً في حياتهن في ظل هذه الظروف الصعبة، لذلك أجد أنني بينهن الوحيدة المستمتعة بحياتي وقادرة على إيجاد الوقت لنفسي، أعمل وأدرس وأخرج مع صديقاتي ولا مكان للوحدة أو الفراغ.
أحمد (40 عاماً) لم يتزوج بعد، هو غير رافض لفكرة الزواج لكن في الوقت نفسه لا تشغل باله أو لا يعتبرها من أولويات حياته وبرأيه: الزواج نفسه أحياناً يكون عزوبية حين لا يجد الزوجان تبادلاً في المشاعر ولا مكاناً للتفاهم والراحة.
من جهتها المعلمة إيمان (27 عاماً) تعتبر أن الزواج سواء للمرأة أم الرجل هو سنة من سنن الحياة التي أوصانا بها الله تعالى، ولا يمكن نكران أن الزواج استقرار وأمان، ولكن يعتمد ذلك على الاختيار الصحيح وهذا الاختيار مرتبط بمقومات يصعب توفرها في ظرفنا الحالي، وأضافت: إنها لن تقبل الارتباط إلا بوضع مادي يضمن استقرارها وأطفالها، وتفاهم يجمعها مع الشخص الذي ستختاره شريكاً لها.
أما يارا (40 عاماً) تقول: السعادة نصيب ولا أحد يعلم أيهما خير له، عزوبيته أم زواجه، لكن هي تنصح جميع البنات ألا يتزوجن قبل إتمام دراستهن وحصولهن على الشهادة الجامعية والعمل، فالشهادة والعمل في رأيها أهم من الزواج.
وبعد تباين هذه الآراء كان لابد من معرفة وجهة نظر الصحة النفسية مع الباحثة في الصحة النفسية الدكتورة غنى نجاتي التي أوضحت لـ «الثورة» أن حالة العزوبية حالة منتشرة بشكل سائد في مجتمعنا المحلي وهي ناتجة عن حالة العزوف عن الزواج، أي اختيار للعزوبية وذلك بعد أن يصل الشاب أو الشابة لعمر الارتباط رغم بعض الضغوط من الأسرة والمجتمع إلا أنهم يختارون العزوبية.
ووصفت الدكتورة هذه الظاهرة بـ (عازب.. لكن باختياري) معتبرة أنه أصبح لها مساحة كبيرة بسبب ارتباطها بالعديد من الظواهر الاجتماعية والثقافية والطبية النفسية وأنها تستحق الدراسة، ومثل أي ظاهرة فهي تعبر عن وجهة نظر الإنسان وتكون نابعة عن إيمانه وقناعته بأنه يقوم بالخيار الأنسب له في الوقت الحالي.
وقالت نجاتي: نحن لا نشجع على الزواج ولا على عدمه، بل نحافظ على الحيادية العلمية بتوضيح ايجابيات الظاهرة وسلبياتها من وجهة نظر نفسية، فبالنسبة للأشخاص الذين اختاروا حالة العزوبية هم يملكون استقلالية ذاتية أقوى من غيرهم، وبالتالي اعتمادهم دائماً يكون على أنفسهم ويهتمون بحياتهم الشخصية أكثر بإيجاد الوقت الكافي لتنميتهم الفكرية وممارسة هواياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية والأسرية والتي تتميز بقوتها أكثر من المرتبطين أو المتزوجين، وذلك بسبب وجود درجة تقدير عالية للعلاقات الإنسانية ما يدفعهم للتفرغ لها.
هذه العلاقات المتينة التي يبنونها تعود لتقديرهم الكبير لذاتهم، بالإضافة إلى أن الأشخاص العازبين لديهم أيضاً ميزة مهمة جداً وهي أنهم المتحكمون والمحددون لمصروفهم الاقتصادي، أما المتزوجون ومن لديه أطفال ومسؤوليات نجد أغلب أوقاتهم يفكرون بطرق لسد الاحتياجات واللوازم، والتي أصبحت اليوم مهلكة للغاية.
وأكملت الدكتورة نجاتي: أما العازبون الذين يبحثون عن الزواج، فهم غير قادرين على الاستمتاع بعزوبيتهم المليئة بالطموح والفرص والقدرات الكامنة والشغف، بل يرون الحياة فقط عبارة عن ارتباط وخاتم زواج ما يجعلهم يربطون سعادتهم بالارتباط وأي مسرات أخرى وإنجازات هم غير قادرين على رؤيتها.
وذكرت الدكتورة نجاتي أن حالات كثيرة من الشباب تتردد إلى عيادتها تشكو وتتساءل حول السبب في عدم الارتباط؟ وما هي المشكلة؟ وما اللازم فعله حتى يكون هذا الشاب أو الفتاة مرغوبين، وبناء على هذه الحالات بينت وجهة نظرها كباحثة في الصحة النفسية بقولها: كل إنسان يجب أن يستمتع بالدور الحياتي الذي يعيشه وعليه أن يعتبره فرصة له لينمو فكرياً وعلمياً وإدراكياً أكثر وخاصة مع ارتفاع نسبة حالة العزوبية، فجميل جداً أن تستمع الشخص أياً كان بالحالة الموجود فيها وأن يعتبر أن الحياة فرصة لفعل كل ما يريده ويمكن أن تكون فرصة مؤقتة وبعدها يحصل الارتباط.
وأكدت أن كل إنسان حكيم نفسه ويعلم ما هدفه من الارتباط، فإن كان الهدف بناء الأسرة فلماذا ينسى أنه جزء من أسرة ينتمي لها.. وأنه ليس وحيداً.
إيجابيات وسلبيات
وتنصح الدكتورة بقولها: كل دور في الحياة له ايجابياته وسلبياته فلنحاول أن نطور هذه الايجابيات وأن نتكيف مع السلبيات أو إيجاد الحل لها، ولمن يطلبون مهوراً عالية وغيرها من المطالب التي تمنع الشباب من الزواج تتوجه لهم بالقول: أما آن الأوان لنفهم أن الزواج شراكة عاطفية وليس فقط شراكة اقتصادية، وأنه يجب تغيير المفاهيم بعادات الزواج وتقديم المساعدة لكل فتاة وشاب يريدون الزواج أن يرتبطوا بطريقة مقبولة اجتماعياً وأسرياً وتشريعياً.
والأمر غير المخفي أن للحالة الاقتصادية الصعبة دور كبير في ظاهرة العزوف عن الزواج والتي أوضحها لـ «الثورة» الباحث الاقتصادي الدكتور فاخر القربي الذي بين أنها من الظواهر التي تنخر في جسم المجتمع وتهدد استقراره، حيث باتت ظاهرة ترهق كيان الأسرة والمجتمع على حد سواء، نظراً لطبيعة المشكلات وحجمها، ومن أهم المشكلات التي أصبح يتخبط فيها الشاب المثقف هي حالة اللا استقرار، والتي تنعكس سلباً على حياته وحياة من حوله، وعلى استقرار واستمرار الأسرة وتقدم وتطور المجتمع. حيث لا تزال الأسباب الاقتصادية هي البارزة وراء عزوف الشباب عن الزواج وخاصة غلاء المهور وأزمة السكن، بالإضافة إلى توسع دائرة التعارف والاحتكاك والاختلاط بفضل التطور التكنولوجي.
ويقول الدكتور القربي: إن ارتفاع التكاليف والنفقات من مهر ومنزل وإقامة حفل الزفاف وغير ذلك من عادات التفاخر في متطلبات الزواج سببت عدم قدرة الشباب على تحمل نفقات الحياة الزوجية وتكوين الأسرة وإنجاب الأطفال نتيجة تدني الأجور وغلاء المعيشة وخوف الشباب من الفشل نتيجة تحمل المسؤوليات وفرض الالتزامات عليهم ما جعلهم يعتبرون أن العزوف عن الزواج نوع من الحرية الشخصية وتجنب للصراعات والقيود نتيجة وجود تجارب سيئة تؤدي إلى انعدام الثقة بالآخرين بالإضافة إلى رغبة الفتيات في استكمال تعلميهن وانشغالهن في تحقيق طموحاتهن.. هذه المشكلة الاجتماعية واحدة من الكثير من المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا والتي تحتاج لحلول قادرة على الأقل التخفيف منها.
وبرأي الدكتور القربي ان من هذه الحلول الابتعاد عن كل التعقيدات المفروضة على الزواج وتقديم المساعدات المادية للشباب المقبلين على الزواج من خلال قيام المؤسسات الإعلامية والتربوية ببث الفكر وروح المسؤولية لدى جيل الشباب وحثهم على الزواج، وأن يأخذ رجال الأعمال وأطياف المجتمع بشكل عام دورهم في تأمين فرص العمل للشباب.
من جانبه الباحث في القضايا الاجتماعية والتربوية الدكتور حسام الشحاذة شرح لـ «الثورة» الأسباب التي أدت لعزوف الشباب عن الزواج في مجتمعاتنا المحلية في سورية بقوله: تتعدد العوامل والمُسببات المؤدية إلى عزوف الشباب على الزواج في سن الرشد والبلوغ في المجتمع السوري، وهي بالعموم قضية نسبية، تختلف من شاب إلى آخر، لكن بالمجمل يمكن تعيين تلك المسببات بنقاط رئيسة، أهمها: غلاء المهور ويَعتبر أهل الفتاة غلاء المَهر ضماناً لمستقبل ابنتهم مع هذا العريس أو ذاك، فَهُم يجهلون مستقبل ابنتهم، والمهر الذي يشترون به الذّهب- بحسب العادة- يساعد على مواجهة المشكلات الماديّة التي يمكن أن تتعرّض لها ابنتهم في المستقبل حين حصول أي مشكلة غير متوقعة كالطلاق مثلاً، أو وفاة الزوج، أو تعدد الزوجات وغيرها، وبذلك يصبح المهر سلاحاً تستخدمه الفتاة لمجابهة مستقبل تعتقد أنه مجهول المعالم-على المستوى القريب أو البعيد- مع هذا الشاب، بصرف النظر عن المقومات الأخرى التي قد تجعل من الشاب عريساً مناسباً لها كالمؤهلات العلمية، والقيم الأخلاقية التي يحملها، وما لديه من مستوى الطموح.
وبين الدكتور الشحاذة أن معظم الدراسات التي أجريت في العالم العربي حول العنوسة وغلاء المهور وعزوف الشباب عن الزواج تظهر أن الأسر التي يتمتع أفرادها بمستوى جيد من المؤهلات العلمية والثقافية، لديهم ميول لتزويج بناتهن لأي شابٍ يتوفر فيه القدر الجيد من المستوى التعليمي والثقافي، مع قدرٍ مقبول من المستوى المادي.
إلا أن هذا التوجه كان في أدنى مستوياته بالنسبة للأسر التي يتمتع أفرادها بمستوى تعليمي وثقافي منخفض، ويكون جل اهتمامها البحث في الامتيازات المادية والاقتصادية الحالية للخاطب.
وفي سؤال عن الحلول الممكنة لظاهرة عزوف الشباب عن الزواج، أجاب د. الشحاذة بقوله: يمكن إيجاد حلول لهذه الظاهرة والتخفيف من آثارها السلبية على الفرد والمجتمع من خلال التّوعية الدّينيّة، ففي الحديث الشريف عن سيد المرسلين محمد (ص) قوله (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)، فعلى الرغم من أن المهر من حقوق الزّوجة في الإسلام، وفي جميع الأديان السماوية والقوانين الوضعية، إلا أن الحكمة منه هو حِفظ قدر الفتاة المخطوبة، ولم تكن الحكمة منه تعجيز الشّباب وإرهاقهم وهم في بداية حياتهم، فلو تمت التوعية بقيم المهور زمن الدعوة الإسلامية مثلاً لاتّعظنا، فمنهن من تزوجت مقابل تعليمها القرآن الكريم، ومنهن من تزوّجت مقابل أن يَحفظ الزوج القرآن الكريم، إذاً فحق المرأة في المهر، لا يشترط أن يكون حقاً مادياً، بل قد يكون معنوياً.
رأفة بالحالة المادية
وأكد د.الشحاذة على ضرورة التّفكير في الحالة المادية للشّاب بعد الزّواج فلو فكّر أهل الفتاة بالحالة التي ستكون عليها حياة ابنتهم مع زوجها في المستقبل لاختلف الأمر، فبعض الشباب قد يُرهقون أنفسهم بالديون والقروض، لتأمين المهر وتكاليف الزواج، فيُصبح دخل الشاب في المستقبل مرهوناً بقضاء تلك الديون.
وختم الدكتور الشحاذة: إن تفعيل فكرة التكافل الاجتماعي من قبل الجهات الحكومية من الحلول الهامة للحد من عزوف الشباب عن الزواج وذلك بعرض برامج توعية مناسبة حول المخاطر الفردية الاجتماعية المترتبة على غلاء المهور، ومن جهةٍ أخرى سعي الحكومة من خلال الوزارات المعنية لتأمين المتطلبات الأساسية لكل شاب مقبل على الزواج من خلال برامج للقروض الشبابية، أو من خلال فكرة الادخار الاجتماعي، ولاسيما لذوي الدخل المحدود، مع إمكانية تقسيط تلك المبالغ بفوائد رمزية وبقيمة التكلفة، وتفعيل دور المنظمات الأهلية وغير الحكومية بهذا الخصوص.