الملحق الثقافي- رولا محمد السيد:
يعد قسطنطين زريق علماً بارزاً من أعلام الدعوة إلى العروبة مفكراً رياضياً لإنارة طريق المستقبل العربي دون قطيعة بين ماض عظيم وبين مستقبل يجب عليه أن يتمثل كامل تجربة العالم المعاصر من ثقافات ما زالت تنبض بالحياةK ومن علم تجاوز حدود الثقافات كلهاK ومن تداخل مع كل إبداع وكل فكر وكل ما اعتقد، وأنجب طرقاً وأساليب جديدة في التفكير، للتوصل إلى المعارف المعنوية والمادية والمعلوماتية، التي سخرت للوصول بالإنسان إلى هذا القدر من المعرفة والتقدم الحضاري.
وهذا لم يمنع زريق من أن يهتم بالماضي الذي يمثل قوة جاذبة لرص عناصر المجتمع وتكتلّها في إقامة السلام المجتمعي، كما لم يمنعه من أن يهتم في إيجاد اجماع يفرض ظل العلمانية، وهو يهيئ الأجواء للعمل مستمر والإبداع في شتى المجالات في عالم قائم على المنافسة..
الأمر الذي كوّن تجربته حول محور واحد هو كيف يمكن تسريع خطى المجتمع العربي في التحرك ولأي اتجاه وبأي محتوى يقيه، يختار الحاضر، ويثبت أقدامه في حلبات الصراع والمنافسة العالية العالمية على أسس من الحرية والتفاعل الداخلي، وبما يحفظ تنوعه الحضاري واستقلاله واستقلاليته.. وهو يرص صفوفه في مواجهة الأطماع الخارجية.
رؤياه المستقبلية
تقوم رؤيا زريق المستقبلية على عدد من الأعمدة العلم، التقانة، التنظيم المجتمعي، والدولة الديمقراطية على أسس علمانية، ولعله من المفكرين العرب الأوائل الذين أدركوا مال النخبة المجتمعية الفكرية من دور حاسم في القرار المجتمعي.
كيف لا وهو يرى في الوحدة العربية ضرورة للعرب من أجل توسيع الآفاق والأسواق .. وحده لابد من أن تكون اتحادية ومدركة للأوضاع والارتباطات والتنوعات الموروثة، بحيث تختصر على أمور السياسة والدفاع والاقتصاد.. وهذا لا يكون إلا من خلال التربية الأخلاقية السليمة الملتزمة بالقضية الفلسطينية تصوفاً.
من يقرأ قسطنطين زريق لا يستطيع أن يتهم العقل العربي بالقصور لأنه غني بالنوابغ من أمثاله.. نوابغ تقبل التحدي، وتكرس الحياة.. وحياة زريق كلها عمل وتضحية من أجل العقل العربي والإنسان العربي.
هو يعد التخلف والتمزق من أوصل العرب إلى الكارثة، وإن الخروج من هذه الكارثة يبدأ بتقدم العقل العربي القومي على الطريق القومية.
كيف لا وهو يعيد أسباب الضعف العربي إلى عوامل داخلية أهمها الانقطاع عن النمو والجمود الذي سبب للعقل العربي الانغلاق على نفسه ورفض التيارات الجديدة ومحاربة حركات العقلانية وقوى التاريخ.
وإذا كانت عروبة زريق، قد ولدت في دمشق، ونمت في بيروت، فإن قلبه كان ينبض في فلسطين وشعبها وقضيتها.. هذه القضية التي واكبها منذ شبابه، وعمل لها دبلوماسياً قبل النكبة، كما سمى هزيمه عام 1948 فعل ذلك، وهو يحرص من خلال كتبه المتتالية على ثورة العقل العربي من أجل تحريرها.
المؤرخ السوري
حمل في مسيرته الفنية ألقاباً كبيرة «شيخ المؤرخين، مرشد الوحدويين، داعية العقلانية، المربي النموذجي..» إنه قسطنطين زريق المؤرخ السوري البارز، والتي رصدت أعماله رؤية قومية متماسكة الأركان، منفتحة على وعي أصيل لعقيدة القومية العربية، سبيلاً إلى بلوغ حضاري، يرقى بأمة العرب إلى معارج التقدم والتجدد في الحياة عبر مسار سبعة عقود من التجربة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
توجهاته الفكرية
في كتابه «نحن والتاريخ» عالج زريق فيه معالجة صحيحة القضايا الكبرى التي تجابهها الإنسانية اليوم، وقضى مسيرة حياته منافحاً صلباً عن القومية العربية في تيارها العقلاني المنفتح على التاريخ وعلى العالم، وصاحب صوت وقلم، مدافع دون كلل عن قمم الرقي والتقدم.. مشيراً إلى مواضع الضعف والاختلال في مجتمعاتنا العربية.
كان ينير سبل العمل نحو الاقتصاد القومي في مواجهة العدو الخارجي وعلى رأسهم الصهيونية والأعداء الداخليين المتمثلين بالتخلف والجهل وسوء توزيع الثروة وغلبة المناحي الخرافية على الفكر وغياب الأخلاقية عن المعاملات الاجتماعية والسياسية على حد سواء.
والمفاجىء، أن كل ما يعيشه الواقع العربي الآن من صراعات فكرية وسياسية وقومية، قد أشار إليها زريق في تنبوءاته عن مستقبل العرب، وكثيراً ماحذرنا منها لئلا نقع في تلك المطبات التي صنعتها الرجعية والفكر الرجعي والاستعمار المتصهين في تخريب كل ما أنجزناه في الماضي القريب والبعيد.
منابع فكره
نهل زريق في ثقافته وفكره من منابع عديدة، كان أهمها بيئته التي كانت المنبع الأول لفكره القومي العربي، وقد أزكت فؤاده الوقاد بالحس الوطني القومي وصقلت قدراته الكامنة في ذاته، فأتقن روح المبادرة ومنهج المحاكمة وزودته بوعي موضوعي عال لمواجهة الواقع.
وتركت هذه البيئة المكانية التاريخية، الثقافية، الاجتماعية آثارها العميقة في روحه وعقله، لأنها اتصفت بالانفتاح على الآخر وثقافته ما عزز لديه احترامه وقبول آرائه السياسية والفكرية والدينية وعاداته وتقاليده.
والمنبع الثاني.. امتداد الفكر القومي التاريخي في الشخصية العربية، فكل ثقافة تعبر عما أضافه أبناؤها إلى سابقيهم في مجالاتها المتعددة، والحديث عن الثقافة القومية العربية تاريخياً يؤكد لدى العرب نزوع الانتماء إلى منازلهم وحيزهم الجغرافي وتاريخهم وثقافتهم ولغتهم التي تعبر أحسن تعبير عن خصائصهم الاجتماعية والوجدانية.
والمنبع الثالث.. الفكر القومي العربي الذي يشكل القومية العربية بوصفها قضية حضارية منفتحة على التحرر السياسي والاجتماعي والاقتصادي ومرتبطة بالعدالة والكرامة على المستويين الفردي والجمعي، ومؤلفاته تجسد فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية بكل ملامحه، لذا فإن التراث والدين لديه ووفق حقيقته المتصورة إنما يحملان رسالة إنسانية ومضموناً خلقياً نبيلاً، كما يرى أن العروبة هوية حضارية متحددة بخصائصها الثقافية والاجتماعية المرتبطة بالوعي الذي يجذر العمق العاطفي للوجود الحيوي العربي التاريخي ويثريها بالبعد السياسي الذي يجسد جوهر الحياة العربية وشخصيتها المتميزة.
فكره القومي
يعد قسطنطين زريق من أبرز دعاة القومية العربية الذين عملوا على بناء مجتمع قومي موحد يفيد من الإمكانات البشرية والمادية، فهو علم من أعلام العروبة تقوم رؤيته المستقبلية على عدد من الأعمدة» العلم، التقانة، التنظيم المجتمعي، الدولة الديمقراطية على أسس علمانية»، ولعله من المفكرين العرب الأوائل الذين أدركوا ما للنخبة المجتمعية الفكرية من دور حاسم في القرار المجتمعي القومي.
كان يرى في الوحدة العربية ضرورة للعرب من أجل توسيع الآفاق والأسواق، وحدة لابد من أن تكون اتحادية ومدركة للواقع العربي، وللأوضاع والارتباطات والتنوعات الموروثة، وحدة تقتصر على أمور السياسة والدفاع والاقتصاد، وهذا لا يكون إلا من خلال التربية الأخلاقية السليمة الملتزمة بالعروبة وعلى رأسها عروبة القضية الفلسطينية.
حمل رسالة إنسانية
ويمكن وصف زريق بأنه رجل حمل رسالة وطنية قومية إنسانية بامتياز، وتجلى مناضلاً واعياً، عندما ربط بين الحضارة والقومية، وما بين الحضور المعرفي والكفاح القومي.. وكل ذلك عن إيمان بالشعب العربي وبقدرة الإنسان العربي، متمثلاً مقولة نيرودا الشهيرة «أنا وحدي شعب».
وقد أدرك زريق الضعف الداخلي للشخصية العربية وضرورة مواجهة هذا الضعف مواجهة واقعية صريحة، لأن الوعي القومي يزن الأمور بموازينها الصحيحة، والوعي عنده يمثل قوة عظمى تحتاجها الأمة العربية في هذه المرحلة الخطيرة من الحياة العربية.
السؤال الذي يطرح نفسه: هو ما الذي تبقى لنا من قسطنطين زريق؟..
ما من شك أن ماتبقى لنا من هذه الشخصية الفذة هو القدوة الشخصية الداخلة في خضم واقع القرن العشرين بتياراته واتجاهاته، بوعوده وخيباته وآماله، وإحباطه وتوتراته، وبمرجعيته وسبل تجاوز هذه المرجعيات.
العدد 1203 –3 -9 -2024