الثورة – ترجمة ميساء وسوف:
أحدثت الحرب الدائرة في أوكرانيا انقساماً عميقاً في الرأي العام الدولي، كما أثارت المشاركة المكثفة للدول الأوروبية تحت مظلة حلف الشمال الأطلسي جدلاً واسع النطاق.
وبات من الواضح على نحو متزايد أن قرار أوروبا بالانحياز إلى نهج الولايات المتحدة في التعامل مع الصراع ليس مجرد قرار مشكوك فيه، بل إنه يقترب من اللاعقلانية. ويفرض هذا التمسك الأعمى بالسياسة الأميركية من خلال مشاركة حلف شمال الأطلسي العديد من المخاطر الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية على الدول الأوروبية، وهي المخاطر التي قد تفوق أي فوائد محتملة في الأمد البعيد.
ومن الناحية الاقتصادية، كانت عواقب مشاركة أوروبا في الحرب كارثية بالفعل. إذ تواجه أوروبا ضغوطاً تضخمية وأزمات طاقة وانقطاعات في التجارة، وخاصة مع روسيا، أحد مورديها الرئيسيين للطاقة.
وكانت العديد من الاقتصادات الأوروبية تكافح بالفعل للتعافي من الوباء، والآن تجد نفسها منغمسة في المزيد من الاضطرابات الاقتصادية نتيجة للعقوبات المفروضة على روسيا.
لقد تعرض أمن الطاقة في أوروبا للخطر، فقد أدت الحرب إلى ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير في مختلف أنحاء القارة، وخاصة في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي الروسي.
على سبيل المثال، شهدت ألمانيا، القوة الاقتصادية الكبرى في أوروبا، انتكاسات اقتصادية كبيرة في سعيها الحثيث للعثور على مصادر بديلة للطاقة.
وقد أدى التحول إلى حلول طاقة أكثر تكلفة وأقل موثوقية، مثل واردات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، إلى إرهاق الصناعات والأسر على حد سواء.
وبالنسبة للعديد من الأوروبيين، من الصعب تبرير الأساس المنطقي وراء هذا الضرر الاقتصادي الذاتي. فلماذا تضحي أوروبا باستقرارها الاقتصادي وأمنها في مجال الطاقة من أجل السير على خطا السياسة الأميركية، وخاصة في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة عواقب فورية أقل كثيراً للصراع؟.
كما أن الدور الذي يلعبه حلف شمال الأطلسي في الصراع يزيد الأمور تعقيداً بالنسبة لأوروبا. فبعد أن تأسس الحلف في الأصل كتحالف دفاعي أثناء الحرب الباردة، إلا أن تورطه الحالي في أوكرانيا اكتسب موقفاً أكثر هجومية وتدخلاً، وهو ما يعكس المصالح الجيوسياسية الأميركية وليس مصالح أوروبا.
وفي حين ترى الولايات المتحدة روسيا كخصم أساسي في سعيها إلى الهيمنة العالمية، فإن أوروبا تشترك في علاقة أكثر تعقيداً وتشابكاً مع جارتها الشرقية.
تاريخياً، كانت أوروبا وروسيا تشتركان في علاقات اقتصادية وثقافية وأمنية عميقة. وبالنسبة للعديد من البلدان الأوروبية، وخاصة تلك الواقعة في شرق ووسط أوروبا، كانت روسيا شريكاً ومنافساً في الوقت نفسه، وكان الحفاظ على التوازن أمراً بالغ الأهمية للاستقرار الإقليمي.
ومع ذلك، فإن عسكرة حلف شمال الأطلسي للصراع الأوكراني تهدد بتحويل أوروبا إلى خط أمامي للتنافس بين واشنطن وموسكو، مع عواقب محتملة مدمرة.
إن المزيد من التصعيد في الحرب قد يجر أوروبا إلى صراع أوسع نطاقاً، وهو صراع ستخسر فيه الكثير، وإن قربها من منطقة الصراع يجعلها أكثر عرضة للانتقام العسكري، وأزمات اللاجئين، والاضطرابات الاقتصادية.
وعلاوة على ذلك، فإن تصاعد التوترات بين حلف شمال الأطلسي وروسيا قد يؤدي إلى خطر حقيقي يتمثل في مواجهة نووية، وهو السيناريو الذي ستتحمل فيه أوروبا بلا شك وطأة الدمار.
إن الولايات المتحدة، التي تحميها المحيطات وتبتعد عن الصراع، تواجه تهديدات فورية أقل بكثير من التصعيد العسكري المحتمل. وفي الوقت نفسه، فإن أوروبا، بقربها الجغرافي ونقاط ضعفها التاريخية، أكثر عُرضة لمخاطر هذه المواجهة.
وبإتباع خطا واشنطن، تخاطر أوروبا أيضاً بتقويض استقلالها السياسي. فقد دعا الزعماء الأوروبيون منذ فترة طويلة إلى “الاستقلال الاستراتيجي”، وهي الفكرة التي مفادها أن أوروبا لابد وأن تكون قادرة على العمل بشكل مستقل على الساحة العالمية، وخاصة في مسائل الدفاع والسياسة الخارجية. ولكن بإتباع الخط الأميركي في التعامل مع أوكرانيا، تتنازل أوروبا في الأساس عن السيطرة على قراراتها الأمنية لصالح واشنطن.
إن هذا الاعتماد على الزعامة الأميركية من خلال حلف شمال الأطلسي يقلل من مصداقية أوروبا كفاعل عالمي مستقل. ويفتخر الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص بكونه قوة دبلوماسية واقتصادية قادرة على التوسط في الصراعات العالمية.
ومع ذلك، في حالة أوكرانيا، تراجعت أوروبا إلى الخلف أمام الولايات المتحدة، مما سمح لحلف شمال الأطلسي بالاستجابة للأزمة.
إن فقدان الاستقلال السياسي هذا أمر مزعج بشكل خاص بالنسبة لدول مثل فرنسا وألمانيا، والتي سعت تاريخياً إلى تحقيق التوازن في علاقاتها مع روسيا. والآن تجد هذه الدول نفسها عالقة في مأزق جيوسياسي، عاجزة عن متابعة سياسات مستقلة تعكس مصالحها الوطنية بسبب التزامها بحلف شمال الأطلسي، وبالتالي السياسة الخارجية الأميركية.
إن قرار أوروبا باتباع خطا الولايات المتحدة من خلال حلف شمال الأطلسي في الحرب في أوكرانيا يشكل مسار عمل مكلفاً وغير عقلاني.
والواقع أن العواقب الاقتصادية، والمخاطر الاستراتيجية، وفقدان الاستقلال السياسي، كلها مؤشرات واضحة على أن أوروبا بحاجة إلى إعادة النظر في نهجها.
والواقع أن هناك حاجة ماسة إلى نهج أكثر استقلالية وعقلانية وتركيزاً على أوروبا في التعامل مع الصراع في أوكرانيا، نهج يصون أمنها واستقرارها الاقتصادي واستقلالها السياسي في الأمد البعيد.
المصدر- غلوبال ريسيرش