الملحق الثقافي- رولا محمد السيد:
يعد محيي الدين صبحي ناقدًا للشعر، ولكن فعاليته النقدية امتدت في السنوات الأخيرة قبل وفاته إلى نقد الرواية.
وتحتاج دراسة النقد الروائي عند صبحي أن نلتزم جانب الحذر، تبعاً لأبعادها نقد الشعر من فعاليته النقدية.
أما مسوّغ الحذر فهو نقاط الالتقاء بين منهجه في نقد الشعر، ومنهجه في نقد الرواية.
فنرى النقاط المشتركة مرتبطة بعضها ببعض، وهناك النقاط المتباينة، فنخلص إلى حصيلة نقده الروائي النظرية والتحليلية إلى اعتماد مبدأ (التخييل) منطلقاً رئيساً في نقد النقد عنده؛.
ومن منهجه الخاص في نقد الرواية، نلاحظ النقاط المنهجية عنده، كالتحليل والتفسير وأحكام القيمة والتذوق.
ثم نخلص من ذلك كله إلى موقفه الفكري العام، فتتضح مسوغاته إلى أمور نقدية تتعلق بأسلوبه وشخصيته في النقد التطبيقي.
التخييل
الدلالة على مفهوم محيي الدين صبحي لطبيعة الأدب الروائي يجب أن تنطلق من العام، وليس قبل ذلك على الأرجح.
ففي العام المذكور صدرت ترجمته كتاب نظرية الأدب – لاوستن وارين ورينيه ويليك، وكان الكتاب صدر في طبعته الإنكليزية الأولى عام، واستمر تأثيره في الآداب الأجنبية طويلاً، وكان له مثل هذا التأثير في الدراسات النقدية والأدبية العربية بعد طباعة ترجمته إلى اللغة العربية.
إن طبيعة الأدب كما وضحها الكتاب كامنة في أن (التخييل) هو السمة المميزة للأدب.
وأن الناقد صبحي استقر، حين ترجم هذا الكتاب على هذا المفهوم لطبيعة الأدب.
قد تكون ترجمته الكتاب أثرت في تأكيده هذا المفهوم، وفي دفعه إلى إعلانه والبحث عنه في النصوص الروائية العربية، ليس هناك ما يُرجح أحد الاحتمالين غير أن الدراسات اللاحقة لمحيي الدين صبحي كانت تؤكد في عناوينها أن الأدب (تخييل).
ففي عام ١٩٧٤ أصدر كتابه (عوالم من التخييل)، وفي عام أصدر كتابه (مطارحات في فن القول)، ووضع للقسم الثاني منه عنواناً دالاً، هو : (في فن التخييل).
وفي عام ١٩٧٩ أصدر كتابه (البطل في مأزق، دراسة في التخييل العربي).. تشير هذه الكتب في مجملها إلى أن (التخييل) أصبح مفهوماً رئيساً من مفاهيم النثر القصصي (القصة والرواية) عند محيي الدين صبحي.
وإذا دققنا في دراساته بعد عام ١٩٧٢ لم نعثر على أية دراسة عن الرواية أو القصة تخلو من تأكيده هذا المفهوم، والاستناد إليه في أحكامه الأدبية والنقدية.
وبغية توثيق هذا الأمر، نرى أن دراسات الناقد صبحي عن الشعر عبرت عن المفهوم نفسه مع محافظته على خصوصية الجنس الأدبي، ونستطيع، استناداً إلى كتابه دراسات تحليلية في الشعر العربي المعاصر )، الدلالة على أن مراده النقدي هو دراسة الذات الشعرية وليس السيرة عبر الشعر.
إذ إنه نص على هذا الأمر في أثناء دراسته شعر نازك الملائكة وفدوى طوقان؛ تلك الدراسة التي تحدثت عن الذات الشعرية، انطلقت من مفهوم محدد، هو التخييل نفسه، بمعنى أن القصيدة في شعر نازك وطوقان ليست سيرة ذاتية لهما، خلافاً لما ظنه بعض القراء.
ولقد ورد، بعد خمس سنوات على طباعة كتابه (دراسات تحليلية في الشعر العربي المعاصر) توضيح كاف واف للذات الشعرية والمفهوم التخييلي الكامن وراءها.
فقد جاء في الفصل الخامس من كتابه (الكون الشعري عند نزار قباني ) ما يلي: نحن حين نعرض تجارب الشاعر كما تبينها القصائد نقع جميعاً في وهم أننا نتحدث عن شخص الشاعر كإنسان عاش في زمن معين، وعانى تجارب معينة أوردها في شعره.
غير أن النقد ليس بالسيرة؛ لأن الأدب ليس مذكرات شخصية، ثم خلص إلى أن الفن صناعة، والصناعة تدخل في باب التقاليد التي تقوم على مبدأ الاعتماد على الطبيعة الفطرية، وإن الفن، أجمعه محاكاة وتخييل، مما يجعل صلته واهية بالواقع.
وحتى حين نصف أثراً بأنه واقعي فيجب ألا نقصد من نعتنا هذا، إذا أردنا أن يكون لكلامنا معنى أكثر من أنه يقوم على علاقات شبيهة بالعلاقات التي تجري من خلالها الأحداث في العالم الخارجي؛ أي أنه احتمال.
ولقد أشار محيي الدين صبحي في مقدمة كتابه (عوالم من التخييل) إلى أن مصطلح (التخييل) ليس جديداً، إنما هو متداول في النقد العربي القديم، وقد تعرفه بوساطة الدكتور من إحسان عباس قال: أما كلمة تخييل فلها قصة طريفة، ذلك أني حين كنت أترجم كتاب نظرية الأدب اصطدمت الصفحات الأولى بمصطلح (Fiction) ولم يجد له في قواميسنا ولا آثارنا النقدية المعاصرة عديلاً ولا كفوءاً بين المصطلحات المستعملة من (إيهام)، (اختلاف) (توهم)، (خيال)…. الخ. وصدف في تلك الفترة من عام ١٩٧٠ أن أصدر الدكتور إحسان عباس كتابه القيم (تاريخ النقد الأدبي عند العرب)، فوجدته يستعمل مصطلح (التخييل)، وحين أوغلت في الكتاب وجدت أن الفارابي ينقل عن أرسطو أن الأدب تخييل.
فقارنت النص العربي مع الترجمة الإنكليزية، فتطابق المصطلحان.
لم تكتف مقدمة كتاب عوالم من التخييل بتأثيل مصطلح (التخييل)، إنما أوضح مفهوم محيي الدين صبحي له، الذي أوضح، هذا المفهوم استناداً إلى هذه المقدمة، وإلى دراسات الناقد صبحي اللاحقة، في محاولة لتأطيره؛ لأنه بدأ يشيع في نقد الرواية السورية، تبعاً لإصرار صبحي على التمسك به ولأهميته الذاتية في النقد الروائي.
العدد 1209 – 15 – 10 -2024