الملحق الثقافي- علي حبيب:
هل ترهل الخطاب الثقافي العربي، وصار من الماضي ولابد من تجديده، سؤال مطؤوح بقوة تختلف الإجابات عليه من مفكر لآخر، عبد الله الجسمي يقدم في مجلة العربي العدد 791 قراءة وإجابة على ذلك نختار منها:
تمر المنطقة العربية ببوادر مرحلة جديدة بدأت تأخذ ملامح مختلفة عن الملامح السابقة التي مرت بها خلال العقود الخمسة الأخيرة، حيث شهدت تلك الفترة تحولات عدة في الواقع الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، والفكري، وأفرزت خطاباً ثقافياً مختلفًا عن خطاب النهضة العربية الذي بدأ تقريبًا منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى ستينيات القرن العشرين، فقد شهد الخطاب الثقافي العربي خلال الخمسين عاماً الأخيرة تحولاً في أسسه التي قام عليها سابقاً، من خطاب يحارب الاستعمار، ويدعو للتحرر منه، وينشر قيماً وأفكاراً مدنية بقيادة نخبة من المثقفين والمفكرين وقوى مدنية تحمل فكراً مستنيراً وتركز على المعرفة الحديثة والعلم وآثارهما المختلفة على الواقع الثقافي، لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن وتحول إلى خطاب مختلف بعد الاستقلال.
خطاب ما بعد الاستقلال
تبدل الواقع العربي بعد التحرر من الاستعمار، وتأثر بالتحولات العالمية التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية، المتمثلة بالصراع الأيديولوجي بين قطبين رئيسين هما الاشتراكي والرأسمالي، الذي امتد حتى بداية العقد الأخير من القرن المنصرم، فواقع ما بعد التحرر من المستعمر جاء بتغيرات نوعية سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وفكرية، أفرزت في مجملها أكثر من خطاب ثقافي، لكنها تميزت بمميزات مشتركة سنشير لأمثلة منها، وبصراع ثقافي وفكري حاد، فعلى الجانب السياسي تشكل خطاب أيديولوجي تضمن الأيديولوجيات اليسارية والاشتراكية والقومية ضد القوى الرأسمالية المتنفذة في المجتمعات العربية، بمعنى انعكس الصراع العالمي على الواقع العربي وأثر بعمق في خطابه السياسي.
وبعد نكسة يونيو في العام 1967م دخلت على الخط وبشكل متدرج قوى الإسلام السياسي وبلورت خطاباً سياسياً أيديولوجياً ذا صبغة طائفية، وما لبث أن تمدد وهيمن تقريباً على الخطاب العربي بعد حرب الخليج الأولى وانهيار المعسكر الاشتراكي عندما تبدد الطرح الأيديولوجي اليساري ليس على المستوى العربي، بل والعالمي أيضاً، وقد أثرت الظاهرة الأصولية على الثقافة في العالم العربي، وكانت أحد معاول هدم قيم وأفكار التنوير التي جاءت بها النهضة العربية، كما تم التضييق وبشكل كبير جداً على القوى المدنية الحديثة بمختلف توجهاتها وإعادة إحياء التشكيلات الاجتماعية التقليدية ذات الطابع العرقي والطائفي والعشائري والقبلي وثقافاتها، وتعزز ذلك مع الانتقال الواسع للشرائح الاجتماعية من الريف وغيره إلى المدينة ونقلت ثقافاتها معها وأثرت في طريقة حياة المدن وثقافاتها وساهمت بتراجعها، خصوصاً في ظل تراجع القوى المدنية وفكرها وثقافتها، وقد شكل ذلك خطاباً ثقافياً تقليدياً يكاد أن يخلو من أسس الثقافة المدنية العقلانية والعلمية والفكرية، وأحيا القيم التقليدية ذات الطابع الفئوي، وأثرت بشكل كبير على بنية المجتمع والدولة المدنية، خصوصاً فيما يتعلق بمفهوم المواطنة.
وجدير بالذكر أن هناك سمات مشتركة بين الأطراف الثلاثة، القوى الأيديولوجية والأصولية وأصحاب الثقافات ذات الجذور الاجتماعية، حيث تشترك جميعها في التفكير الأحادي الجانب، والإقصاء، وغياب الحوار الفعلي، وعدم الاعتراف بالآخر، ورفض التعايش معه أحياناً، علاوة على التعصب والتطرف، فقد تميز الخطاب اليساري- مثلاً- بإقصاء القوى القومية والليبرالية والعكس صحيح، وخطاب القوى الأصولية يقصي كل مَن يختلف معها من منطلقاتها الدينية أو الطائفية، وكذلك حالة الإقصاء بين الشرائح الاجتماعية وحتى أحياناً بين مكونات الشريحة الواحدة.
وهنالك سمة مشتركة أخرى بين الخطابات الفئوية وهي متأصلة في الخطاب الثقافي العربي العام، وتعطي مؤشراً حقيقياً لغياب الأبعاد العلمية والعقلانية والموضوعية منه وهي الانفعال والعاطفة في التعامل مع الواقع وأحداثه ومشكلاته، إذ أفرز ذلك عقلية انفعالية في تعاملها مع كل شيء تقريباً، بحيث يتم التعامل مع اتخاذ القرار وتحليل الظواهر على أسس عاطفية لا عقلانية أو موضوعية، وانعكس ذلك على إدارة المجتمعات وطريقة التعامل بين مكوناتها المختلفة، ولعل السبب الجوهري الذي يدفع بانفعالية الخطاب يعود إلى الدور الذي تلعبه الآداب بشتى أنماطها، بشكل خاص والفنون بشكل عام، وجميعها انفعالية الطابع، في تكوين الأسس التي يقوم عليها وعي الأفراد وطريقة تفكيرهم، فنتيجة لتهميش العلم والتعليم في تشكيل وعي الإنسان وبناء فكره وغياب التفكير العلمي والعقلاني والموضوعي من واقعنا الثقافي، فتح ذلك الباب لأن يكون التفكير انفعالياً وعاطفياً، وأدخلنا في متاهات وعزز من الجوانب الذاتية الصرفة واليقين الذاتي الذي لا يعتمد في معظم الأحيان على أي أدلة.
وخلال العقدين الأخيرين أثرت التكنولوجيا على مظاهر ثقافية عدة وكذلك الخطاب الثقافي ورموزه بشكل عام، إذ ساهمت بتسطيح الوعي وتفكير الإنسان من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، التي أزاحت الرموز الثقافية التقليدية وأجهضت دورها في نشر أفكار وقيم ذات طابع فكري ومدني وأتت برموز استهلاكية ومشاهير في مجالات معينة أخذوا ينشرون بشكل عام قيماً ومفردات وخطاباً ثقافياً يتسم بالسطحية والاستهلاك والابتذال، في بعض جوانبه، فساهم ذلك في هبوط المستوى الثقافي العام وامتد تأثيره على الهوية والقيم والعلاقات الاجتماعية والنسيج الاجتماعي للمجتمع.
كما أحدثت التكنولوجيا تطورات سريعة في مختلف مجتمعات العالم فخلقت هوة ثقافية بين الأجيال الناشئة والأكبر منها سناً في المجتمع الواحد، فهناك اختلاف بين الأجيال في القيم وطرق التفكير والعادات والتقاليد وحتى الهوية… إلخ. وكأننا أصبحنا أمام أكثر من ثقافة لكل منها خطابها الخاص تقريبًا لدرجة يصعب فيها التواصل أحيانًا وبسهولة في عدد من الموضوعات والقضايا بين الأجيال.
خطاب ثقافي جديد
ساءت الأوضاع بشكل كبير خلال العقود الخمسة الماضية في الواقع العربي، فقد أصاب التراجع كل الجوانب بما فيها الفكرية والثقافية، وأصبحت العديد من الدول العربية في ذيل قائمة مؤشرات عالمية مختلفة، ناهيك بالصراعات وحالات التشرذم والتفكك السائدة في عدد من المجتمعات العربية.
وعلى الرغم من ذلك يقف الواقع العربي على أبواب مرحلة جديدة، تظهر فيها بوادر لتغيرات على مستويات عدة يمكن أن تحدث تحولات نوعية قد تساهم في تجاوز الواقع الحالي إلى حد كبير والأسباب التي دفعت لحالة التردي العامة، وتدفع لبلورة خطاب ثقافي عربي جديد يتجاوز سابقه، فمن بين العوامل التي تساهم في خلق خطاب ثقافي جديد هو تراجع الخطاب السياسي الأيديولوجي بشكل كبير للقوى السياسية التقليدية التي عملت على أدلجة الخطاب الثقافي وتنميطه حسب أفكارها.، كما أن الظاهرة الأبرز، وهي ذات طابع أيديولوجي أيضًا، التي تستدعي العمل الجاد على خلق بدائل لها تتعلق بتراجع الإسلام السياسي في معظم الدول العربية بسبب المواقف الجادة التي اتخذتها منه والعمل على محاربة أطروحاته الداعية إلى التعصب والتطرف، وبث الطائفية وخلق الصراعات والوقوف ضد الحداثة والقيم المعاصرة والعودة إلى الوراء وأدلجة المجتمعات ومؤسساتها وغيرها. والتراجع الذي نراه لتلك القوى يستدعي العمل الجاد والمشترك من المسؤولين، والمثقفين، والمفكرين، والعاملين في الفلسفة، وأصحاب التفكير العقلاني الحر، والمؤمنين بقيم التنوير والتقدم، لسد الفراغ الفكري الذي تركه تراجع تلك القوى في الساحة العربية.
كما أن انتقال الشرائح الاجتماعية المختلفة إلى المدينة خلال العقود الماضية قد تم استيعابه إلى حد كبير، حيث نشأت أجيال جديدة منها في المدينة وحصلت على مستوى تعليمي جيد وانفتحت على التعدد الثقافي في المدينة الذي استوعب إلى حد كبير التفاوت الثقافي القائم على أسس اجتماعية. وأصبحت الأجيال الشابة اليوم تمثل الأغلبية في المجتمع العربي والتي نشأت خلال العقود الثلاثة الماضية في واقع لعبت فيه التكنولوجيا دوراً مهماً في الانفتاح على العالم وثقافاته المختلفة، وأحدثت بالفعل بعض التغيرات الثقافية على قيم ومفاهيم وسلوك وهوية الأجيال الشابة، التي قد تؤسس لواقع ثقافي جديد يتجاوز الثقافات التقليدية ويفتح المجال لإحداث تطور ثقافي حقيقي يكون منبعه من الداخل.
أسس الخطاب الثقافي الجديد
تقتضي صياغة خطاب ثقافي جديد النظر في الأسس التي يقوم عليها حتى تكون الانطلاقة سليمة وتحقق الأهداف المرجوة منها، ولتحقيق ذلك لابد من النظر في العوامل والأدوات الفكرية التي توظف لتجديد الخطاب الثقافي وتماشيها مع متطلبات المرحلة القادمة للعودة إلى النهوض مجدداً، وسنقدم هنا عدداً من أبرز الأسس التي لا بد وأن يقوم عليها هذا الخطاب.
لابد أن يكون الواقع الذي نعيشه ومتطلبات تطويره هو أحد أبرز الأسس، بمعنى يجب أن يتسم الخطاب بالواقعية، ويتضمن موضوعات وطرق تفكير ورؤى قابلة للتطبيق، ولا يكون ذا سقف عال، ويتماشى مع المشكلات الحقيقية ويقدم امكانيات واقعية لحلها، ويعالج الأسباب الفعلية التي تقف وراءها، ويحتوي على طرق التفكير الحديثة للتعامل معها ويقدم نقدًا لطرق التفكير البالية التي أوصلتنا إلى هذه الحال.
ويجب أن يدرك المثقفون والمفكرون العرب أن واقعهم هو مدرستهم ومرجعيتهم ومنه يستنبطون طرق التعامل مع قضاياه بخبرتهم وحسهم الفكري والثقافي لا الإتيان بأفكار جاهزة من الخارج ومحاولة تطويع الواقع لها، فهذه المسألة لم تنجح أو تؤتي بثمار فعلية خلال عقود طويلة من العمل الثقافي الذي كان يرى الأغلبية الساحقة من رموزه الأفكار الغربية نموذجاً، فواقعنا ومشكلاته والسياق التاريخي الذي نعيشه لا يقارن بالأوضاع التي يظهر فيها الفكر والقيم الثقافية الغربية، وبالتالي ستخفق أي محاولة للبحث عن أفكار جاهزة تأتي من الخارج. ولا يعني ذلك أن تكون هناك قطيعة مع الفكر الغربي أو غيره، بل يجب الاطلاع عليه، وعلى غيره، ودراسته جيداً والاسترشاد به كتجربة إنسانية متميزة وإذا كانت هناك أفكار يمكن الاستفادة منها فعلياً فيمكن الأخذ بها علاوة على استخدام الأدوات والمناهج الفكرية كإطار وليس كمضمون، بحيث نصيغ نحن المضمون الذي يعبر عن واقعنا وأفكارنا، وعندما يكون الواقع هو المدرسة التي يتأسس عليها الخطاب سيعطي ذلك قوة له ويساهم في انتشاره وقبوله بشكل عام.
يقتضي تأسيس خطاب ثقافي جديد أن تكون هناك حركة تغيير شاملة تطال مناحي الحياة جميعها، والواقع العربي، ترتكز على أسس اقتصادية واجتماعية عبر التحول إلى مجتمعات منتجة بمعنى التحول إلى مجتمعات فعلية وليست هامشية تعيش على الاستيراد والاستهلاك والاعتماد على الآخرين، وسيغير ذلك بلا شك من طريقة حياة المجتمع ويدفع ببناء البنية التحتية اللازمة لعملية الإنتاج والعمل الاقتصادي على أسس علمية وتكنولوجية حديثة، ويتزامن مع ذلك إحداث تغيير اجتماعي وثقافي وفكري مثلما كان حال التحولات التي تمت في أوروبا خلال العصر الحديث.
العدد 1212 – 5 – 11 -2024