الثورة – تحقيق هلال عون:
مع اتجاه سوريا الجديدة إلى اقتصاد السوق الحرّ التنافسي، ارتأت صحيفة الثورة إجراء تحقيق من ثلاثة أجزاء، يبدأ الجزء الأول بعرض تجربة اقتصاد السوق الاجتماعي الذي انتهجته سوريا عام 2005، والأسباب التي أدّت إلى فشله، وذلك بغية الاستفادة من أخطاء الماضي وعدم الوقوع فيها مجدداً، بينما سيتم تخصيص الجزئين الثاني والثالث لمفهوم اقتصاد السوق الحر التنافسي وعملية الانتقال إليه من الواقع الاقتصادي الحالي المتردي، وشروط النجاح ومحاذير الفشل.
وتتحاور “الثورة” لأجل ذلك مع عدد من الخبراء والباحثين الاقتصاديين.. لنتابع التفاصيل: أخطاء التطبيق عن مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي، يقول المستشار والخبير الاقتصادي الدكتور فادي عياش: “تم اعتماد منهج اقتصاد السّوق الاجتماعي في عام 2005، وكان القصد منه الانتقال المرن واللين من الاقتصاد المخطط مركزياً إلى اقتصاد السوق، مع مراعاة مصالح فئات المجتمع، ولاسيما الفقيرة ومحدودة الدخل منها”.
أما عن الهدف منه، فيرى أنه “من حيث النظرية يهدف إلى الجمع بين المبادرة الخاصة عبر حماية حرية الاقتصاد، وتقليل التضخم، والتقدم الاجتماعي المتمثل في الرخاء والضمان الاجتماعي على أساس اقتصاد تنافسي، وتالياً يرفض اقتصاد السوق الاجتماعي الاشتراكية والاقتصاد المخطط المركزي، ويسعى إلى تفكيك الرأسمالية الاحتكارية، ويكون تدخل الدولة ضمن قواعد محددة في اقتصاد السوق الحر لضمان عدم حدوث فوارق اجتماعية كبيرة”.
أسباب انحراف المسار؟
ولكن لأسباب كثيرة موضوعية وخارجية، وأخطاء متعددة، وأحياناً متعمدة، انحرف المسار، كما يقول د. عياش، ولذلك لم تظهر النتائج بالشكل المطلوب للاعتبارات التالية:
أولاً: التناقض الكبير بالمفهوم السياسي بين اشتراكية النظام السياسي والتوجه الرأسمالي الذي يتضمنه مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي.
ثانياً: أخطاء التطبيق نتيجة ضبابية المفهوم والتناقض السياسي وغياب الإرادة الحقيقة مع سوء الإدارة الناتجة عن قلة الخبرة والفساد والذي أدى إلى نشأة اقتصاد احتكار القلة”.
نسبة النّمو غير كافية
ويؤكد د. عياش أنّ “مرحلة التحول عند بدء الثورة السورية لم تتحقق، وأنّ الوضع الاقتصادي العام حتى 2010 كان يحقق نتائج كلية غير كافية لتنعكس على واقع التنمية، فعلى سبيل المثال استطاع الاقتصاد السوري تحقيق معدل نمو وسطي يقدر بـ5.2% وسطياً، لكنه لم يكن كافياً لتحقيق شرط التنمية، وهو أن يفوق معدل النمو التراكمي الوسطي 3 أمثال معدل النمو السكاني، وتالياً كنا بحاجة إلى معدل نمو لا يقل عن 7% سنوياً (حسب المخطط في الخطة الخمسية العاشرة) لينعكس النمو كتنمية تنعكس بدورها على المجتمع ككل، وهذا ما لم تتمكن حكومات تلك المرحلة من تحقيقه”.
تشريعات غير متجانسة
أما مدير غرفة تجارة دمشق الدكتور عامر خربوطلي فيرى أن أهم أسباب تعثُّر التحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي هي أن “العنوان كان يختلف عن المضمون، فقد كانت هناك قوانين وتشريعات مختلطة ما بين اقتصاد حر ومركزي واشتراكي، حيث كنا نرى على مستوى التجارة الداخلية تقييداً على مستوى السلع، ولم تكن هناك تنافسية كاملة بتحرير الأسعار، وفي الوقت نفسه كانت هناك تعقيدات في الاستيراد والتصدير، إضافة إلى أنّ آليات التنفيذ لم تكن واضحة، والقائمون على الخطة لم تكن لديهم إرادة حقيقية على مستوى التنفيذ، وليس على مستوى التشريع، يضاف إلى ذلك الإرث الثقيل من النظام المركزي الاشتراكي منذ الستينيات، حيث كان هناك الكثير من الصناعات التي لا يُسمح للصناعيين بالعمل فيها ، ويتابع د. خربوطلي: “هناك أيضاً، على سبيل، المثال قوانين العلاقات الزراعية والتجارة الداخلية التي كانت تعتمد على الفواتير والأسعار المحددة، في بعض الأحيان كان هناك خليط من التشريعات غير المتجانسة أثرت سلباً على نجاح التحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي”.
اقتصاد لا نهج له
الباحث والخبير الاقتصادي الدكتور عابد فضلية يرى أنّ نهج اقتصاد السوق الاجتماعي فشل في تطبيق أدنى متطلباته خلال العقود السابقة، وهو لا يقلّ تعقيداً عما نحن عليه حالياً، لجهة أنه اقتصاد لا نهج له ولا قواعد، ومن شروط النجاح الوصول أولاً إلى مستوى متطور من اقتصاد السوق الحر المادي ليتم بالتوازي معه أو بعده ترسيخ أو تعميق جانبه الاجتماعي، وهذا ما حصل في اقتصادات معظم دول العالم الرأسمالي الغربي، وعلى رأسهم ألمانيا بداية الستينيات من القرن الماضي.
نحو اقتصاد السوق الحر
رئيس مركز الوفاق للتوفيق والتحكيم التجاري المحامي محمد وسام كريم الدين، يرى أن المعاناة الاقتصادية السورية لم تكن وليدة المرحلة السابقة من مخاض الثورة السورية، فقد اعتمدت حكومات النظام البائد المتعاقبة أنظمة اقتصادية مغلقة لا تتبع لأي نموذج اقتصادي معروف، فرغم رفعها شعار الاقتصاد الاشتراكي إلا أن مظاهر الاقتصاد
الرأسمالي ظاهرة في كثير من مراكز النفوذ، فهو نوع من اقتصاد السوق الموجه، إلا أنه فقد البوصلة وأضاع الاتجاه، فلا هو حمى الصناعة الوطنية، ولا سدّ احتياجات المواطن، وإنما توجه إلى الاستحواذ على الثروة وتجميعها بيد فئة قليلة محظية. للاستفادة من أخطاء الماضي.
يتابع كريم الدين: “لابد من دراسة أخطاء الماضي لاستشراف المستقبل والاستفادة من أسباب فشل التجارب السابقة، ففي تاريخ 4/5/2010 تم قبول سوريا عضواً مراقباً في منظمة التجارة العالمية، وقد شكلت اللجان المحلية والمشتركة بهدف إلزام الحكومة باتباع القواعد اللازمة لتفعيل العضوية والاستفادة من ميزاتها، أرسلت الخطط والشروط ومنحت المهلة تلو المهلة، وكان من أهم الشروط للوصول إلى اقتصاد مفتوح ونظام السوق الحر هو تعديل الأنظمة التشريعية والقوانين التي تحكم النشاط الاقتصادي، ومن أهمها أنظمة الجمارك والاستيراد والتصدير والمصارف وتداول الأموال وحماية المستهلك وحماية المنتج الوطني ومنع الاحتكار وغيرها من القوانين التي كانت تعوق الدخول إلى السوق العالمية”. ويضيف: “رغم المحاولات الإسعافية التي قام بها النظام المخلوع من خلال تعديل بعض القوانين، والاعتماد في كثير منها على النماذج الدولية ومنها النماذج الصادرة عن اليونسترال (لجنة الأمم المتحدة للتجارة الدولية) وغرفة التجارة الدولية وغيرها، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل، وذلك لأسباب عديدة منها:
من أسباب الفشل
أولاً: انتشار منظومة الفساد في كل أركان النظام البائد، والتي كانت تحبط أي محاولة لتعديل الأنظمة والقوانين، بل تنفذ القوانين المعدلة بطريقة تفشلها من خلال التفسيرات والتعليمات التي تحرف القانون عن أهدافه بغية الحفاظ على مصالح المنتفعين والفاسدين بمختلف مستويات النظام. ثانياً: وجود مراكز قوى ونفوذ خارج إطار الدولة قادرة على التحكم بقرارات حكومات النظام المخلوع بما يضمن ويحقق أهدافها الخاصة، هذه القوى التابعة لكبار مسؤولي وتجار النظام ارتبطت مع كيانات اقتصادية خاصة، ترجح مصالحها الخاصة على مصلحة الوطن والمواطنين، وتخضع لأنظمة ظل معقدة من توازن القوى وتوزيع الحصص وتقاسم الغنيمة. ثالثاً: محاولة تغيير القوانين والنمط والفكر الاقتصادي مع المحافظة على المسؤولين القدامى ذاتهم الذين تشربوا الفساد وتشربوا الأنظمة الاقتصادية المنغلقة الموجهة والتي باتت جزءاً من كيانهم، فهؤلاء المسؤولون الذين عجز النظام البائد عن خلعهم لم يتمكنوا من تقبل الأنظمة الحرة للاقتصاد الحر، ولم يتمكنوا من تغيير نمط تفكيرهم لما يتطلبه التوجه العالمي ومصلحة البلاد من تغيرات في السياسة الاقتصادية، فكانوا حجر عثرة في طريق إنقاذ النظام المتهالك، فبقوا وسقط مشروع الإصلاح. رابعاً: تراكم القوانين والتعديلات والبلاغات والتعاميم بشكل معقد، لذلك كانت عملية التعديل على ما هو موجود، غرق أكثر في مستنقع التراكمات، فلا يمكن تعديل سقف البناء القانوني باتجاه السوق الحر والاقتصاد المفتوح مع الإبقاء على أساسه المنغلق والمتسم بالمراقبة والمحاسبة المفرطة، مع ما يتخلل الطبقتين من قوانين وتعاميم كثيرة تصل أحياناً إلى درجة التعارض فيما بينها، الأمر الذي كان يعجب رؤوس الفساد الذين كانوا يستخرجون التعميم والقانون المناسب في الوقت المناسب لمصالحهم وضرب منافسيهم وسرقة المواطنين.