الثورة – عمار النعمة:
الإبداع الأدبي شعراً كان أم رواية، أخذ بعد تطور النقد شكل التيارات المتعددة، وأسس من خلال نصّه ما أطلق عليه الباحثون والنقاد توجهات وتيارات بصيغة أخرى، وأرادوا إعطاءه المزيد من الاهتمام فقالوا سياسة الأدب.. ولهذه التسمية دلالات كثيرة ومختلفة، لعل أولها: القدرة على المناورة والذهاب وفق توجهات فكريّة ومجتمعيّة يحددها الموضوع.
اليوم نقف عند كتاب “سياسة الأدب” مع الإشارة إلى صدور مجموعة من الكتب التي تتناول سياسة الأدب ومفهومها، وعلاقة الأدب بالسياسة من زوايا مختلفة، لكن جاك رانسيير في كتابه “سياسة الأدب” الذي ترجمه الدكتور رضوان ظاظا، يسعى إلى إظهار كيف أن الثورة الأدبية تقلبُ فعلياً نظام العالم المحسوس الذي يدعم التراتبيات التقليدية.
ويختبرُ الكتاب فرضياته على بعض الكتّاب مثل: فلوبير وتولستوي وبريخت وبورخيس وغيرهم.. كما يظهر تبعاتها على التأويل التحليلي النفسي، وعلى السرد التاريخي، والتصور الفلسفي.
يؤكد الكاتب أن سياسة الأدب ليست سياسة الكتّاب والتزاماتهم، ولا هي تتعلق بالطريقة التي يصوّرون بها البنى الاجتماعية أو الصراعات السياسية، إن تعبير “سياسة الأدب” يفترض وجود صلة محددة بين السياسة، بوصفها شكلاً من أشكال الفعل الجماعي، والأدب بوصفه نظاماً محدداً تاريخياً لفن الكتابة.
يكشف جاك رانسيير، وهو أحد أهم الفلاسفة المعاصرين، عن قوانين وأحكام عامة تتصل بتاريخ ظهور النص الأدبي، دون أن ينتبه إليها دارسوه أو نقاده وربما أيضاً كتّابه.
وقد بات من الضروري الذهاب إليها بعينها حين نقوم باستعراض النص الأدبي، لا أن نظل ندور حولها في حراك التفافي على النص الأدبي، ومن أجل أن نطوّعه لسياسة كاتبه، إذ “ليست سياسة الأدب سياسة الكاتب بحال من الأحوال، وهي لا تتعلق بالتزامه الشخصي في صراعات عصره السياسية والاجتماعية”، على حد تعبير جاك رانسيير نفسه.
يتعلق الأمر بإظهار أن للأدب شكلاً سياسياً خاصاً به، إذ يرى رانسيير أن الأدب يتميّز بشكل من أشكال الديمقراطية، بمعنى أنه يُحيدُ عدداً من التراتبيات التي كانت في ما مضى تميز بين الممارسات النبيلة لفن الكتابة وغيرها، فقد كان سائداً في الماضي نظام تراتبي يُحَدِّدُ ما ينتمي إلى الفنّ وما يجب أن يُقصى منه، ويحدّد الأجناس والموضوعات والتعابير النبيلة وغير النبيلة، وشهدت ولادة الأدب الحديث في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر نهاية هذا النظام وتحطيمه، فصارت كل الموضوعات صالحة، وهيمنت الرواية، وكانت جنساً هامشياً من قبل، وكذلك القصيدة الغنائية أي الخالية من أي فعل.
كما يرى رانسيير أن هذا الأدب الحديث لم يكن نتاج إرادة تسعى إلى التأثير في إرادة أخرى، أي أن الكلام لم يعد حامل قصد ونية، بل هو كلام الأشياء الصامتة البكماء، وهذا ما تشهد عليه روايات بلزاك ويرتسم تاريخ المجتمع بأكمله على الجدران والأثاث والثياب.. وحين أعلن فلوبير أن الموضوع لم يعد أمراً مهماً وأن على العمل الأدبي أن يقف على قدميه بفعل القوة الداخلية لأسلوبه فحسب، اعتبر كلامه هذا تعبيراً عن نزعة الفن للفن وعن ميل أرستقراطي ما، لكن الأمر عند معاصريه كان مخالفاً لهذا الاعتبار، فالتصريح أن الأسلوب وحده هو بحد ذاته طريقة مطلقة في رؤية الأشياء.. يعني تحديداً أن الجودة الأدبية لم تعد مرتبطة بجودة الموضوعات، وأن باب الأدب صار مفتوحاً أمام الحياة العادية والأشخاص العاديين.
إن هذا الكتاب هو عبارة عن مجموعة من الدراسات المتفرقة التي تنضوي تحت جناح عنوان الكتاب وموضوعه الجامع، ولقد نشر رانسيير هذه الدراسات في مجلات كما ألقاها في ندوات ولقاءات علمية خاصة.