الثورة – رنا بدري سلوم:
من بعد أن كشفت الوجوه وتعرّت، وانقلب من يدعي الحرية والسلام، من كان يكتب عن الليبرالية والدعوة إلى الانفتاح الفكري، وتقبل الآخر، والتشاركيّة، متحدثاً بها على الملأ كي يقنعنا أن الفكر صناعة أولوية لابدّ من إتقانها، فكذبنا على أنفسنا كثيراً حتى صدّقنا أنفسنا..أننا بخير.
هذا كان حال بعض مدّعي الثقافة في بلادي العربية، وفي بلاد الغرب أيضاً ينتشرون لكنّهم كانوا أكثر جرأة في وضع فلسفة المثقف وما يعيشه من ضغوط، فألفت كتباً خصصت لذلك لفهم آلية التفكير، لا بل فضحها، وسنخصص اليوم مبدأ خيانة المثقّفين تلك الثقافة المنتشرة بين البعض منا، فمفهوم “الخيانة” عند الفيلسوف الفرنسي “جوليان بيندا” هو خيانة المثقّفين دورهم الأصيل في السّعي وراء الحقيقة والنزاهة الفكريّة، ودعمهم للأنظمة الاستبدادية، سواء كانت دينيّة أم سياسية، بما يخدم مصالحهم الشخصية أو العامة.
نشر بيندا عام 1927 كتاب “خيانة المثقفين” وشرح فيه عن دورهم في المجتمع وعلاقتهم بالسلطة، وقد طرح فيه نقداً حاداً للذين ضحّوا بالقيم الإنسانيّة والمبادئ الأخلاقية من أجل دعم الأنظمة السياسية أو الأيديولوجيات التي تتّسم بالقوة والقمع.
ويرى أن المثقّفين في العصورالحديثة قد تحولوا من مدافعين عن الحقيقة والعدالة إلى أتباع للسلطة وأدوات لها!. فتناول الكتاب أهم الأفكار بدءاً من المثقفين والسلطة، وكيف أصبحوا في العصرالحديث يخدمون الأنظمة السياسيّة بدلاً من الوقوف ضدها، يراهم في النهاية يتحولون إلى أدوات تُستخدم لخدمة السلطة، مروراً بتدمير القيم الإنسانية، وفيها يُدين بيندا المثقّفين، وكيف أصبحوا يعبّرون عن أفكاروأيديولوجيات تُخدم مصالح السلطة في مقابل المبادئ الأخلاقيّة والإنسانيّة.
وقد أوضح تأثيرالأنظمة السياسيّة، وهنا ينتقد الكتاب بشدّة تواطؤ المثقفين مع الأنظمة السياسيّة الاستبدادية في فترة ما بين الحربين العالميّتين، خاصة في أوروبا، إذ يرون في ذلك انحرافاً عن وظيفتهم التقليديّة في نقل الحقائق والمبادئ الأخلاقيّة.
وقد لفتني في الكتاب والذي قرأته بنسخته الالكترونية بند الاختلاف بين المثقّف العادي والمثقف “المؤمن” وقد أراد الكاتب أن يميّز بين المثقّفين الذين يتّسمون بالحِياد الفكري ويقفون مع المبادئ الإنسانيّة، والمثقفين الذين يُصبحون “مؤمنين” بأيديولوجيات سياسية ويحاربون لمصلحتها.
إن الكثيروليس البعض يجد أن “بيندا” كان قاسياً جداً على المثقفين، وأنه لم يعطِ إشارات إيجابية لهم في سعيهم لتحسين المجتمع، كما أنّ الكتاب قد يواجه اتهامات بمحدوديّة الشمول في تقديم العوائق التي يواجهها المثقّفون في العصر الحديث، وأن بعض القرّاء يعتقدون أن بيندا قد ركّزأكثرعلى المثقّفين الغربيّين في إطار الثقافة الأوروبيّة أكثرمن باقي أنحاء العالم.
“خيانة المثقفين” ليس مجرد كتاب بل هي فلسفة نقدية تناقش العلاقة المعقّدة بين المثقّف والسلطة في المجتمع، ويعتبر دعوة للعودة إلى القيم الإنسانيّة العليا بعيداً عن التأثيرات السياسيّة المدمّرة، من خلال هذا الكتاب، يقدم بيندا تحذيراً من استغلال المثقّفين وتورطهم في الأنظمة الاستبداديّة التي تقوّض الحريّات والحقوق الأساسية منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا.