الثورة – عمار النعمة:
لم يعد التراث في القصيدة الحديثة مجرد حنين إلى الماضي، ولا وسيلة لتزيين النصوص بروائح التاريخ، بل أصبح أداة لإعادة التفكير، ومنجماً دلالياً يوظّفه الشعراء لإضاءة قضايا الحاضر، وطرح أسئلتهم الوجودية والسياسية بعين معاصرة.
منذ خمسينيات القرن الماضي، بدأ جيل جديد من الشعراء العرب بتفكيك الصورة التقليدية للقصيدة، وفتح أفقها على الرموز والأساطير والشخصيات التراثية، أسماء بارزة مثل بدر شاكر السياب، أمل دنقل، محمود درويش، محمد الماغوط، صلاح عبد الصبور، محمد الفيتوري، وسميح القاسم، جميعهم نهلوا من التراث، لكنهم لم يستنسخوه، بل أعادوا تشكيله داخل بنيات شعرية حديثة.
القصيدة الحديثة عند هؤلاء لم تكن مجرد “إحياء للماضي”، بل كانت مقاومة لراهنٍ خانق، وصرخة احتجاج مغلفة بالرمز، فالشاعر الفلسطيني محمود درويش، على سبيل المثال، استحضر شخصية الأندلسي المطرود، ليجسّد بها مأساة المنفى الفلسطيني، أما أمل دنقل، فقد حمل رمح “عنترة” و”المتنبي” في وجه الهزيمة السياسية، وكتب قصيدته الشهيرة “لا تصالح”، مستلهماً تراث العرب الجاهلي.
التراث كمقاومة فكرية
في المشهد السوري، تبرز تجربة ممدوح عدوان بوصفها تجربة متكاملة في استثمار التراث، لم يكن عدوان شاعراً فقط، بل مفكر ومسرحي ومترجم، في أعماله، يظهر التراث لا كماضٍ رومانسي، بل كأداة مقاومة وتحريض فكري، ففي مسلسله الشهير الزير سالم على سبيل المثال، أعاد إحياء الشخصية الأسطورية ليس بوصفها بطلاً قبلياً، بل كمجسد لصراع الإنسان مع الظلم وقد حقق شهرة على مستوى الوطن العربي.
وفي مسرحياته مثل “محاكمة الرجل الذي لم يحارب” و”هاملت يستيقظ متأخراً”، نرى توظيفاً ذكياً للتراثين الشرقي والغربي لطرح أسئلة وجودية وأخلاقية حادة، أما في مجموعته الشعرية “وهذا أنا أيضاً” فيحضر التراث في قصائد تنبض بالقلق والأسى، وتكشف عن رؤية شعرية لا تفصل بين الجمال والمعنى.
اللافت أن توظيف التراث لم يتوقف عند جيل الرواد، بل واصل شعراء معاصرون الاشتغال عليه بروح جديدة، نذكر منهم:
عبده وازن “لبنان”: الذي يستلهم التراث الصوفي في قصائد تتأرجح بين الغنائية والتأمل الفلسفي.
نجوان درويش “فلسطين”: يوظف شخصيات من التاريخ الإسلامي ليضيء بها قضايا معاصرة كفلسطين والمنفى والهوية.
هذه التجارب تظهر أن القصيدة الحديثة لا تكتفي بأن تكون صدىً لما فات، بل تسعى إلى إعادة اكتشاف الإنسان داخل النص، هي قصيدة تسأل، تربك، وتشظي المعنى بدلاً من أن تقدمه على طبق جاهز، إنها قصيدة “القلق الجميل”، المتأرجحة بين التصوف والاحتجاج، بين الغنائية والمرارة، بين سحر الرمز وغموض الواقع.
التراث في هذا السياق لا يعود مرآةً للماضي، بل يصبح نافذة للحاضر، بلغة مغايرة، وصوت شعري يجرؤ على إعادة تأويل الزمن والتاريخ.