واقع السكن العشوائي في سوريا.. أحياء بلا هوية 

الثورة – تحقيق سنان سوادي:

الحصول على سكن صحي، آمن، متكامل، سواء بالتملك أم الإيجار من الحقوق الأساسية للمواطن، ومن واجبات الدولة، وبالتالي نحن أمام قضية ومسألة وطنية.

خلال العقود الماضية انتشرت بكثرة ظاهرة السكن العشوائي أو ما تعرف بمناطق المخالفات، وذلك بسبب فساد الحكومات المتعاقبة وعجزها عن توفير السكن المناسب، وخاصة لشريحة ذوي الدخل المحدود، فما هو تأثير العشوائيات على سلوك الأفراد وعلى العقل الجمعي للمجتمعات؟

بلا  هوية عمرانية

أحياء تفتقر لأدنى مقومات الحياة، تعاني من انخفاض مستوى الخدمات، شوارعها زواريب ضيقة، رائحة المجارير التي تفيض دائماً في الشتاء تفوح في المكان، صخب وضجيج يعم الحي، لا هوية عمرانية لها، بيوت متلاصقة تنتهك خصوصية الأفراد، تلك هي حال معظم العشوائيات.

في منزله المؤلف من غرفة صغيرة ومطبخ لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار.. يعيش محمد حسن (35) عاماً الأب لثلاثة أطفال، في بيئة تفتقر لأدنى مقومات الصحة الجسدية والنفسية، يقول: لقد أجبرتني ظروفي الاقتصادية على الهجرة من القرية باحثاً عن فرصة عمل تؤمن لي مردوداً مادياً، ولم يتوفر لي مكان للسكن يتوافق مع الأجر المنخفض الذي أتقاضاه سوى في مناطق السكن العشوائي.

يعاني أولادي الثلاثة من مرض الربو بسبب الرطوبة التي تعم المكان، وفي ظل ارتفاع أسعار البيوت وبدل الإيجار لا أمل لي بالحصول على مسكن في أحد الأحياء المنظمة.

بدورها، المدرّسة عبير عبد الرحمن، أشارت إلى أنها غادرت مدينتها للالتحاق بوظيفتها الجديدة، وبسبب تدني الراتب الشهري وعدم كفايته لتأمين الحاجات الأساسية اضطرت لاستئجار غرفة في أكثر الأحياء عشوائية، وتضيف: “أعاني من الضجيج الدائم وفقدان الخصوصية، معاناتنا لا تتعلق فقط بنقص الخدمات، بل بنمط الحياة والمفاهيم الاجتماعية السائدة”.

إعادة إنتاج الهوية

رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة اللاذقية الدكتورة ايفا خرما قالت لـ”الثورة”: في زوايا المدن التي لا تصلها الخرائط الرسمية، ينمو نمط من السكن يُطلق عليه “العشوائي، وهي تسمية تتجاوز وصفاً عمرانياً لتعبّر عن بيئة اجتماعية كاملة، لها ملامحها النفسية والسلوكية والجماعية.

لا يُفهم السكن العشوائي فقط بوصفه انعكاساً للفقر أو الاكتظاظ، بل باعتباره حقلاً يعيد إنتاج الوعي الاجتماعي للفرد، ويعيد صياغة الجماعات من الداخل، بما يحمله من خصائص متفردة في التفاعل، والهوية، والنظام الاجتماعي.

وأضافت د. خرما: المسكن ليس حيّزاً مادياً فحسب، بل هو بيئة تنتج الإنسان، إذ تتكوّن شخصية الفرد تحت ضغط الحرمان المكاني (ضيق المساحة، غياب الخصوصية).. ذلك ينعكس على شعور الفرد بذاته، ويقوّض استقلاليته النفسية فيعاني من التوتر الدائم الناتج عن التزاحم والضوضاء، يؤدي إلى بروز أنماط سلوكية دفاعية، مثل العدوانية أو الانسحاب الاجتماعي.

الجماعة بالسكن العشوائي

وبينت د. خرما أن الجماعة تتأثر داخل العشوائيات بسياقها المكاني والاجتماعي، ما يؤدي إلى تشكيل “منظومة علاقات” لها خصائص مميزة كالتضامن الجماعي الضاغط، حيث تُبنى العلاقات على أساس القرب المكاني والحاجة، أكثر من الانسجام القيمي أو الاختيار الواعي، وتتشكل ثقافة فرعية مغلقة تضم مفاهيم خاصة حول الشرف، النجاح، الهيبة، ما يؤدي إلى تمايز ثقافي عن المحيط العام.

وأضافت: تحدث إميل دوركايم عن “التضامن الآلي” الذي يطغى في المجتمعات التقليدية أو المغلقة، وهو نوع من التماسك القائم على التشابه والرقابة الجماعية، وهذا ما ينطبق على الجماعات العشوائية، حيث يُراقَب السلوك من قِبل المحيط الضيق، لا من قبل مؤسسات كبرى.

وتتابع د. خرما: يشير “بيير بورديو” إلى أن الجماعات في الهامش تطوّر ما يسميه “الرأسمال الرمزي البديل”، أي إن معايير الاحترام والهيبة تُبنى داخل العشوائية بمفاهيم مختلفة عن تلك الموجودة في المجتمع المركزي، مثل القوة البدنية، الشهرة داخل الحي، أو عدد الروابط الاجتماعية.

العلاقات الاجتماعية والهوية الجمعية

وأشارت خرما إلى أن العلاقات اليومية في العشوائيات بين الأفراد والجماعات تنتج شكلاً من “النظام الاجتماعي البديل”، حيث تُعاد صياغة مفاهيم الجيرة، والمكانة، والسلوك المقبول.
ويرى هوارد بيكر، (أحد رواد نظرية الوصم الاجتماعي) أن “الفرد حين يُنسب إلى بيئة وُصمت اجتماعياً، فإنه يتبنى تدريجياً أدواراً متوقعة منه، حتى وإن لم تكن انعكاساً لحقيقته الداخلية”، وهو ما يظهر في سلوكيات دفاعية أو تمردية لمجرد الشعور بأنهم “غير مرغوب بهم” مجتمعياً.

فالسكن العشوائي ينتج نماذج بشرية تتفاعل مع واقعها، وتتكيف معه، وتُعيد تعريف ذاتها وهويتها عبره.
وأوضحت د. خرما أن العشوائيات بيئة اجتماعية حية، تبرز فيها قدرات الإنسان على التنظيم الذاتي، وإعادة تشكيل الجماعة، والبحث عن المعنى رغم الضغوط.

مشكلات نفسية

بدورها، أشارت المدربة في التنمية البشرية مريم عطا الله إلى أن السكن الجيد يلبي احتياجات الأفراد والمجتمعات من حيث الأمان، الراحة، الخصوصية، الخدمات الأساسية، المرافق، بالإضافة لعوامل مثل الموقع، المساحة، التهوية، الإضاءة، التصميم العام، والخدمات الأساسية ( كهرباء، مياه، صرف صحي..).

وأضافت عطا الله: يعاني القاطنون في العشوائيات من مشكلات نفسية (اكتئاب، إحباط، قلق..) بالإضافة للتهميش والتمييز الاجتماعي الذي يتولد عنه حالات انعزال أو عنف. وتتصف العلاقات الاجتماعية بالتعقيد وصعوبة ضبطها وفهمها، وعدم القدرة على الربط بين الأسباب والنتائج، وهو ما يؤدي لتفككها وصعوبة اتخاذ القرارات، وبالتالي تظهر سلوكيات غير مسؤولة وغير مقبولة، ما يجعل الحياة في تلك البيئة غير مريحة وغير آمنة.

ويلاحظ ارتفاع نسبة الأمية في العشوائيات، إذ يتسرب الأطفال من المدارس وينخرطون في سوق العمل بسبب الفقر والبيئة الاجتماعية والثقافية السائدة، ويتجه المراهقون والناشئة إلى تعاطي الكحول والمخدرات بنسبة تزيد عن مثيلاتها في مناطق السكن المنظم.

ولمعالجة هذه النتائج السلبية يجب تحسين البنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية (الصحية، التعليمية، الاجتماعية)، وتفعيل المشاركة الاجتماعية، وإشراك السكان في عملية التخطيط والتطوير، والاستماع إلى آرائهم ومقترحاتهم، توفير فرص عمل للشباب من خلال التدريب المهني والتأهيل وتشجيع الاستثمار في هذه المناطق، دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، التوعية بأهمية المحافظة على النظافة والبيئة، وتوفير برامج توعية اجتماعية.

آخر الأخبار
بين الشرق والغرب.. مفاجأة لوجستية في قلب الساحل السوري العمل الحكومي المؤسساتي.. ضرورة تنموية في ظل التحديات خارطة طريق لتعزيز التشارك بين الوزارات الغابات رئة سوريا .. كيف نحميها؟ أحدث الطرق لاكتشاف الحرائق لحظة حدوثها تراجعت زراعته إلى النصف.. التبغ هل سيبقى محصولاً استراتيجياً ؟ الظروف المناخية وصعوبة ترحيل الخلايا تخفض إنتاج العسل بطرطوس فيرشينين: الاتصالات بين دمشق وموسكو حول القواعد الروسية مستمرة المملكة المتحدة: سوريا تلتزم بشكل كامل بتدمير بقايا برنامج "الكيميائي" "مجازر الكيميائي".. جرائم لا تسقط بالتقادم.. هبوط حاد بالأسعار وانتعاش لقطاع الموبايلات بطرطوس الثروة الحيوانية في طرطوس.. تحصينات وقائية ضد الأمراض وصعوبات تواجه المربين اقتصاد سوريا الأزرق.. القبطان محمد جمال عثمان لـ"الثورة": استثمار "موانئ دبي" مقدمة لنهضة في صناعة ... وزير التربية يطمئن: لا يُهضم حق أي طالب وزير الداخلية الكويتي: لن يكون هناك وجود لحزب الله في بلدنا Counter Punch : الشركات الاقتصادية الكبرى متورطة في الإبادة الجماعية في غزة ترحيب بالاتفاقية مع "موانئ دبي العالمية.. خبير مصرفي لـ"الثورة": زيادة الاستثمار وتحسن في الاقتصاد أحياء ضمن مدينة حمص بلا مياه.. والمؤسسة توضح السبب العدالة ليست خياراً سياسياً بل ضرورة أخلاقية وإنسانية تحديات فنية ولوجستية تواجه جهود تنفيذ التزامات سوريا بنزع "الكيميائي" نهر قويق.. حين يتحوّل الماء إلى وباء التعليم المهني من هامش مُهمَل إلى رافعة الاقتصاد الوطني