بازار العلاج في حلب.. حين يتحوّل الجسد إلى عبء ثقيل على جيب المواطن 

الثورة – حسن العجيلي: 

“في هذا البلد، قد لا يُكتب لك الموت بسبب المرض.. بل بسبب الفاتورة”، تقول رؤى إحدى مرضى الكلى في حلب.

يقف المواطن الحلبي وجهاً لوجه أمام واقع صعب في مدينة تضجّ بالصخب والأزمات اليومية، لم يعد فيه المرض هو الخطر الوحيد، بل بات العلاج ذاته أحد التحديات الكبرى قد لا ينجو منها الإنسان، ليس لخطورة مرضه، بل لثقل فاتورة علاج باتت فوق طاقة غالبية الناس.

قبل اكتمال العلاج

رؤئ روت لـ”الثورة” ما جرى معها خلال رحلة علاجها الأخيرة، حين أجبرت على مغادرة المستشفى الخاص رغم أنها لم تكن شفيت بعد، تقول: “بسبب عدم قدرتنا المادية على متابعة العلاج في المستشفى الخاص، نقلني زوجي إلى المنزل لمتابعة العلاج بعناية طبية منزلية وإشراف طبيب يزورني يومياً ليتابع حالتي”.

وتضيف: إن الأسعار المرتفعة في المستشفيات الخاصة كانت السبب الرئيسي وراء هذا القرار، في وقتٍ لا تتوفر فيه بعض الخدمات في المستشفيات العامة، أو تكون الأقسام ممتلئة بالكامل، وخاصة العناية المشددة.

لم تكن تجربة هذه السيدة الوحيدة، بل تكررت بصور متعددة، أبو شوكت، رجل خمسيني من سكان حلب، يروي تجربته مع علاج تحوّل إلى عبء مادي طويل الأمد يقول: ” اضطررت للاستدانة من عدة أصدقاء لأتمكن من علاج والدتي، كانت بحاجة إلى عناية طبية مشددة منذ نحو شهر، مع تدخلات طبية متعددة لاختصاصات مختلفة بشكل عاجل، حصيلتها أكثر من سبعة ملايين ليرة سورية خلال يومين ونصف في المستشفى، المبلغ كان كبيراً جداً ويتجاوز قدرتي المادية، لكن حياة والدتي كانت في خطر، ولم يكن لدينا خيار آخر.”

ويوضح أنه اضطر لاقتراض المبلغ من أصدقائه المقربين، وهو الآن يسدده بالتقسيط، ويضيف”: أنا موظف، وليس لدي أي دخل إضافي، وقد دخلت فعلياً في دوامة الديون انتهى علاج والدتي، لكن بدأ فصل جديد من الضغوط المعيشية.”

رحلة قاسية وفاتورة باهظة

سامية- معلمة وزوجها موظف، لم يكن حالها مختلفاً كثيراً تحكي تفاصيل قصتها منذ لحظة دخولها إلى المستشفى: “تعرضت منذ أيام لوعكة صحية، مما اضطر زوجي إلى نقلي لمستشفى ابن رشد الحكومي بحالة إسعافية, كان وضعي الصحي بحاجة إلى غرفة عناية مشددة، ولكن لم تكن هناك غرفة شاغرة، فنقلوني إلى مستشفى خاص.”

وتتابع حديثها: “بقيت في العناية المشددة بالمستشفى الخاص لمدة أربع ساعات، وبلغت التكلفة مليون ونصف المليون ليرة، بعد ذلك، قرر الطبيب إجراء قثطرة قلبية، ولعدم توفرها في نفس المستشفى، انتقلت إلى مستشفى خاص آخر، وهناك أجريت القثطرة بكلفة 180 دولاراً، بالإضافة إلى صور شعاعية، وتحاليل مخبرية، وأدوية، وإقامة قصيرة لم تتجاوز 12 ساعة, وصل المبلغ الإجمالي إلى أربعة ملايين ليرة سورية.”

تقول سامية: لم أستطع البقاء في المستشفى, بسبب التكاليف المرتفعة، فاضطرت لمتابعة العلاج في المنزل، مع التحاليل في المخابر الخاصة، وزيارات منزلية للطبيب، وضعنا المادي لا يسمح بغير ذلك, دفعت كل هذه المبالغ عن طريق اقتراض الأموال من الأصدقاء والأقارب.”

وتؤكد أن العبء المادي كان مساوياً للضغط النفسي الذي رافق المرض، وكل لحظة تفكير تتعلق ليس فقط بالخوف على صحتها، بل أيضاً بالخوف من العجز المالي وتراكم الديون.

بلا معايير

تعكس حالات المرضى تعدداً في الأعراض، لكنها تتوحد عند نقطة واحدة: الكلفة المرتفعة وغير المنضبطة للعلاج في المستشفيات الخاصة, وبحسب شهادات متطابقة من عدد من المواطنين، تختلف الأسعار من مستشفى إلى آخر دون مبرر واضح.

تتراوح تكلفة غرفة العناية المشددة بين مليون ونصف إلى ثلاثة ملايين ليرة في اليوم، بينما تتفاوت أجور الإقامة في الغرف العادية بين 650 ألف ومليون و200 ألف ليرة, و زيارة الطبيب بين 400 إلى 500 ألف ليرة، حسب الاختصاص والمستشفى.

تخضع العمليات الجراحية في كثير من الحالات إلى تفاوض مباشر بين الطبيب وذوي المريض، على مبدأ “راعونا شوي”، وقد لا تصدر أي فاتورة رسمية تفصيلية، مما يترك مجالاً واسعاً للتفاوت والخلط والغموض.

لم يعد الحديث عن حق الرعاية الصحية أمراً بديهياً، بل أصبح رفاهية لا يمكن الوصول إليها إلا بعد معركة مالية طويلة، تنتهي إما بديون مرهقة، أو بقرار المغادرة المبكرة للمستشفى. المرضى يخرجون من غرف العمليات والعناية وهم ليسوا فقط منهكين جسدياً، بل محمّلين أيضاً بفاتورة لا تقلّ إيلاماً عن المرض ذاته.

صحة حلب تكتفي بالصمت

تتصاعد أصوات المواطنين.. متسائلة عن دور الجهات المعنية في الرقابة على المستشفيات الخاصة، وتنظيم التسعير، وضمان تقديم الخدمات الصحية ضمن معايير إنسانية ومعقولة، ويشير البعض إلى أن غياب لائحة أسعار واضحة، وغياب الرقابة، ساهم في جعل المستشفيات أقرب إلى مشاريع تجارية استثمارية منها إلى منشآت طبية.

لم تستجب مديرية صحة حلب لـ “الثورة” لأخذ تعليق رسمي حول ما ورد من شهادات ومعطيات، ولم يلقَ التحقيق أي رد رسمي حتى لحظة النشر.

حاجة ملحّة

يرى مواطنون خاضوا هذه التجارب، أن الحل لا يكون فقط بمحاسبة المستشفيات المخالفة، بل بتوفير البدائل الحقيقية، سواء عبر تحسين وتوسيع المستشفيات الحكومية، أو عبر تفعيل الضمان الصحي بشكل فعّال، بحيث لا يبقى المواطن ضحية للمرض، والجهل بالتكاليف، والتفاوت الكبير بين مستشفى وآخر.

كثير من المرضى اضطروا إلى الاستغناء عن العلاج، أو الاكتفاء بمتابعة منزلية محدودة، في واقع من دون مؤشرات واضحة على تغييره قريباً.

لا تزال أبواب المستشفيات الخاصة مشرّعة، لكن ليست للجميع, هناك من يدخل لتلقي العلاج ويخرج منه مُثقلاً بالديون، وهناك من لا يدخل أبداً، مكتفياً بانتظار الشفاء في منزله، والتكاليف أصبحت أعلى من قدرته، وربما أعلى من أمله.

وثقنا قصصاً ليست سوى نماذج مما يجري يومياً في محافظة حلب، وهي جزء من مشهد أكبر يتكرر بصور مختلفة، لكن بمضمون واحد: مواطن يحتاج إلى علاج، فيجد نفسه أمام معركة مالية لا تقل قسوة عن معركته مع المرض.

بين غرف عناية لا يدخلها إلا القادرون، وتحاليل يُساوَم عليها، ودواء يُقترض ثمنه، يقف المواطن السوري حائراً أمام سؤال بسيط: هل أصبحت الصحة امتيازًا لا حقًا؟ وهل تحوّل العلاج إلى ترف في حياة من لا يملك أكثر من راتب محدود أو دخل بالكاد يكفي لتأمين الغذاء؟

وبينما تواصل الحياة دورتها اليومية في المدينة، هناك من يقف في طابور الانتظار.. لا ينتظر موعد العملية أو غرفة العناية، بل ينتظر أن يُنظر إلى معاناته بعين الجدّ، لا بعين التجاهل, فالأرقام التي سمعناها، والقصص التي رُويت، كافية لأن تُرسم صورة واضحة، لمن لم يرَ بعد.

آخر الأخبار
"الدالاتي" ينفي مشاركته بأي محادثات تفاوضية مباشرة مع مسؤولين إسرائيليين نسمات من عبق الأدب والانتصار  على مسرح دار الأوبرا  "بيلدكس 2025": إشارات اقتصادية لمرحلة ما بعد العقوبات عبد الحنان : منصة دولية للتعاون الاقتصادي  المواطنة.. قضية فكريّة لجنة لإعادة عمال التجارة الداخلية المنقطعين بسبب ممارسات النظام البائد  ملف التأمين على طاولة " المالية " الشيباني يبحث مع تويتسكه سبل التعاون بين سوريا وألمانيا المعرفة العلميّة... أداة دفاعيّة! الرئيس الشرع من قلعة حلب: من هذه المدينة بدأ النصر ومنها نبدأ معركة البناء وزير الداخلية يبحث مع بيدرسن تعزيز التعاون الإنساني في سوريا "التعليم العالي": 206 معاهد تقانية وتقييم المناهج لمدارس التمريض رويترز: محادثات أمنية مباشرة بين سوريا وإسرائيل لمنع التصعيد الحدودي الرئيس الشرع في قلعة حلب: "حلب مفتاح النصر" محطة مفصلية في مسار سوريا الجديدة حي في "دف الشوك" بلا حاويات قمامة.. واستجابة من مديرية النظافة إزالة التعديات على شبكة المياه في البارك الشرقي بدمشق رؤى تطويرية لرفع كفاءة الكوادر في وزارة الأشغال شراكاتٌ دولية ومباحثات بين الأمم المتحدة وسوريا للنهوض بالتعليم "الأوروبي": تمويل إضافي للمساعدات الإنسانية لسوريا بعد توقف خمس سنوات.. استئناف نقل الحبوب بالخطوط الحديدية "صناعة حلب": مستوردات رديئة تزاحم صناعة الألبسة الوطنية في