الثورة – فؤاد العجيلي:
تهدد الإيجارات المرتفعة للمحال التجارية استقرار الفعاليات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، وتدفع التجار إلى التنقل المستمر بين الأحياء بحثاً عن خيارات أقل تكلفة، هذه “الرحلة التجارية القسرية” لم تترك حيّاً في المدينة إلّا وطالته تداعياتها، لتصبح التجارة في عاصمة الاقتصاد أقرب إلى مغامرة يومية في مشهد يعكس تحولات اقتصادية متسارعة تعيشها مدينة حلب.
من حي لآخر
“نشعر وكأننا نعيش رحلة ابن بطوطة، ننتقل من حي إلى آخر بحثاً عن محل بسعر معقول”، هكذا يصف أسامة ططري- بائع ألبسة جاهزة في حي الموكامبو، حال التجار في مدينة حلب.
ويضيف لـ”الثورة”: “بعدما كان إيجار محلي في الموكامبو لا يتجاوز 12 ألف دولار سنوياً، ارتفع بعد التحرير إلى نحو 30 ألف دولار، ولم يعد بمقدوري دفعه، وسأضطر للمغادرة قريباً”.. ارتفاع الأسعار لم يأتِ من فراغ، بل ترافق مع عودة الاستقرار النسبي وازدياد الطلب على المحال التجارية، في ظل محدودية العرض.
ويصف ططري الوضع الاقتصادي بالمختل، تُرفع الأسعار دون حساب القدرة الشرائية أو ظروف التجار.
الجميلية تلحق بالموكامبو
ليست الموكامبو وحدها المتأثرة، فحي الجميلية، المعروف بكونه مركزاً حيوياً لتجارة المواد الغذائية والالكترونيات، شهد بدوره قفزة حادة في أسعار الإيجارات.
يقول الحاج محمد اسكندراني 65 عاماً، صاحب محل في الحي: منذ أكثر من ثلاثة عقود: “كان الإيجار لا يتجاوز 10 آلاف دولار، اليوم يطالبني المالك بـ 18 ألفاً، لم أعد قادراً على الاستمرار، وبدأت أفكر جدياً بإغلاق المحل، عملت في هذا المكان أكثر من نصف عمري، لكن لا أملك الآن خياراً سوى المغادرة”.
هذا الواقع دفع بعدد من المحال للإغلاق أو الانتقال إلى مناطق أخرى، ما يُهدد بتراجع النشاط التجاري حتى في مناطق تُعد عصب الأسواق الحلبية.
في محاولة للهروب من لهيب الأسعار، اتجه بعض التجار إلى الأحياء الطرفية مثل صلاح الدين، الأشرفية، ومساكن هنانو، غير أن المفاجأة وصول عدوى الإيجارات إليها، مع فارق نسبي في القيمة.
عبد الإله- تاجر ملابس، ترك محله في الفرقان وذهب لاستئجار محل في حي صلاح الدين، ظناً منه أنه سيجد فرقاً واضحاً في السعر.
وقال: “صدمت عندما طلب مني المالك 12 ألف دولار سنوياً، لم يكن لدي خيار سوى البحث أبعد، فوصلت إلى حي الأشرفية، وجدت محلاً بـ 4 آلاف دولار”.
أما محمد شحادة، فاختار مساكن هنانو، والإيجار لا يتجاوز 2000 دولار، “صحيح أن الحركة ضعيفة، لكن التكاليف مقبولة، وهذا ما أحتاجه الآن لأبقى في السوق”.
قلب ينتظر الإنعاش
الحديث عن السوق الحلبي لا يكتمل من دون التطرق إلى قلبه التاريخي، الأسواق القديمة، تضم 37 سوقاً قبل الثورة السورية، تعرض معظمها للدمار، حتى الآن، لم يُرمم منها إلا ثماني أسواق.
“أبو حكمت”، صاحب محل في سوق الجوخ سابقاً، يروي قصته، قائلاً: “مع بداية الثورة، تعرض السوق للقصف من قبل قوات النظام البائد، فهجرته قسراً اليوم، لا يمكنني العودة لأن السوق لا يزال مدمّراً، واستأجرت محلاً في الفرقان، لكن المالك رفع الإيجار مؤخراً إلى 25 ألف دولار، والمحل ليس حتى على الشارع الرئيسي”.
ويشير إلى أن عودة الحياة إلى هذه الأسواق من شأنها أن تحل جزءاً كبيراً من أزمة الإيجارات، “هذه الأسواق هي شرايين المدينة، وبدونها سيبقى النشاط التجاري مشوهاً ومكلفاً.
ولأن السوق سلسلة مترابطة، فإن المستهلك يقف في النهاية ليتحمّل نتائج التضخم في الإيجارات، فالزيادة في التكاليف التشغيلية تنعكس تلقائياً على أسعار السلع.
يقول أبو أحمد- رب أسرة: “نتنقل بين الأسواق بحثاً عن الأرخص, في الفرقان، سعر البنطال 300 ألف ليرة، وفي العبارة لا يتجاوز 150 ألفاً كل حي وسوق بات له تسعيرته، وهذا ظلم للمستهلكين”.
أما الطالبة الجامعية ابتسام، فتقول: “اشتريت بنطال جينز من الموكامبو بـ 400 ألف، واكتشفت لاحقاً أن مثيله يُباع في سوق التلل بنصف السعر”.
تضخم الطلب
الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الحميد حلبي، يوضح أن أزمة الإيجارات ناتجة عن “تضخم الطلب، وغياب التوازن بين العرض المتاح والعدد المتزايد من المستثمرين العائدين، بالإضافة إلى العقود السنوية القصيرة التي تفتح المجال لرفع الأسعار سنوياً من دون قيود”.
ويضيف: “الحل يكمن في إعادة إعمار الأسواق القديمة، وتوسيع قاعدة المحال التجارية عبر إنشاء مجمعات وأسواق حديثة في أطراف المدينة، كذلك على الجهات الرسمية كالبلدية، الأوقاف، وغرفة التجارة التدخل لتنظيم السوق وتأمين البدائل”.
ويتساءل كثيرون، لماذا لا يتم تطوير خطة تنظيمية تشمل توزيعاً عادلاً للمراكز التجارية؟
المهندس جمال عبد السلام يرى أن “حلب بحاجة إلى مفهوم جديد للأسواق الحضرية، لإنشاء مراكز تجارية، بدل حصر النشاط في مناطق محدودة تُشكل بؤر ضغط اقتصادي”.
ويؤكد أن استخدام المساحات الفارغة في أطراف المدينة لإقامة مجمعات تجارية منخفضة التكلفة خطوة تخفف الضغط عن المركز وتمنح التجار متنفساً.
بين البقاء والانهيار
يبقى الوضع في حلب معلقاً بين مطرقة ارتفاع الإيجارات وسندان غياب الدعم التنظيمي، وبينما تزداد معاناة التجار، ويتسرب المستهلكون من الأسواق المركزية، تبدو الحاجة ماسّة لتدخل حكومي عاجل يعيد التوازن لمنظومة الاقتصاد المحلي.
ومع جولة سريعة على محال مدينة حلب، تبدو لافتات “للإيجار” وكأنها تتكاثر على واجهات المتاجر أكثر من الزبائن أنفسهم، فقصص التجار المستمرة بالرحيل من حي إلى آخر، واستغاثات المستهلكين المتعبين من الأسعار المتصاعدة، ليست سوى وجه واحد من أزمة ممتدة.
وسط الفوضى، لا يزال “أبو حكمت” يتمسك بمفاتيح محله القديم في سوق الجوخ، يحتفظ بها في جيبه كما يحتفظ بأمل العودة يوماً، قائلاً: “عشت فيه أربعين سنة… واليوم صرت ضيفاً في محل غريب بإيجار لا أستطيع تحمله. إذا رجع السوق، برجع أنا كمان.”.
بهذه العبارة التي تختزل ألم التهجير الاقتصادي، ينتهي المشهد، ويبقى السؤال في عهدة الجهات المعنية: متى تعود الحياة إلى أسواق حلب؟