إيمان زرزور – كاتبة صحفية:
في سوريا الخارجة من رحم حربٍ طويلة أكلت الأرواح والبيوت، لم ينجُ حلم الشباب بتكوين أسرة من آثارها، فقد أجبر غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي، وغلاء المعيشة، والبطالة المتفاقمة، آلاف السوريين على تأجيل فكرة الزواج، ليظهر جيلٌ كامل من العازفين والعازفات عن الارتباط، في ظل فقدان الكثير من أبناء هذا الجيل للحياة، أو هجرتهم إلى بلدان أخرى.
وفي قلب هذه المعضلة الاجتماعية، يتصدّر غلاء المهور قائمة الأسباب التي تحوّلت من تقليد اجتماعي إلى حاجز ثقيل يحول دون بناء الأسر، ليضع المجتمع أمام أزمة حقيقية تهدّد استقراره البنيوي.
شُرّع المهر في الإسلام كتعبير عن التقدير والاحترام للمرأة، لا كصفقة تجارية، بل كعقد شراكة يُبنى على المودة، غير أن هذا المفهوم تغيّر في كثير من المناطق، إذ بات يُنظر للمهر كمؤشر على مكانة العائلة أو وسيلة لضمان مستقبل الفتاة، الأمر الذي أسهم في تضخيم تكاليف الزواج، وتكريس مفاهيم اجتماعية مشوهة.
يفرض الواقع الاقتصادي في سوريا اليوم تحديات معقدة، فمع الانهيار المستمر للعملة، وتدهور القدرة الشرائية، بات تأمين مهر مرتفع مهمة شبه مستحيلة بالنسبة لشريحة واسعة من الشباب، وتُفاقم هذه الظروف من ظاهرة “العنوسة” في صفوف النساء، وتؤخّر سن الزواج بشكل كبير، ما يفتح الباب أمام اضطرابات اجتماعية وأخلاقية قد تنذر بنتائج خطيرة.
ولعل أبرز الأسباب الاجتماعية والدينية لارتفاع المهور، أولها “التقليد الاجتماعي المتوارث” إذ يرى البعض في رفع المهر نوعاً من “رفع الرأس” أمام الأقارب والمجتمع، وثانيها “ضعف التوعية الدينية” حيث غُيّب البعد القيمي والشرعي للمهر كوسيلة للتكريم، واستُبدل بمنطق السوق والصفقات.
كذلك “الضغوط المعيشية” في وقت تُحاول بعض العائلات ضمان مستقبل بناتهن عبر المطالبة بمهور عالية، وليس آخرها “مظاهر البذخ والرفاه الكاذب” من الحفلات الفارهة، والمهر المرتفع، وقوائم الطلبات المبالغ بها، تحوّلت إلى قاعدة غير مكتوبة في مجتمعات كثيرة.
ومما لاشك فيه أن لتنامي ظاهرة عزوف الشباب عن الزواج الكثير من الآثار النفسية والاجتماعية، حين تحولت من حالة إلى عزوف جماعي مع تزايد نسبة الشباب العازف عن الزواج، وأدت بطبيعتها إلى خلل اجتماعي مع انتشار العلاقات غير الرسمية وتعزيز أنماط فردانية مقلقة، يضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات الطلاق حين يُبنى الزواج على التكاليف لا على التفاهم، وكذلك ضعف الاستقرار النفسي حيث يعاني كثير من الشباب من الإحباط والشعور بالفشل والضغط.
ولابد من الوصول لحلول جذرية يساهم فيها المجتمع والدولة عبر المؤسسات المعنية، بهدف الحد من الظاهرة والعمل على تجاوزها عبر انتهاء الحرب في سوريا، وذلك من خلال خطاب ديني توعوي صريح يوضح الهدف الحقيقي من الزواج، ويكافح المظاهر الزائفة، وإطلاق مبادرات للزواج الجماعي التي تساهم فيها المنظمات والمؤسسات الدينية والمدنية.
يتطلب أيضاً سن قوانين تشجّع على تخفيف المهور وتقديم حوافز للشباب المقبل على الزواج، ولاينسى دور رموز المجتمع من فنانين وعلماء وقادة مجتمع في الاقتداء بزواج متواضع وميسر، مع التوجه لتقديم قروض زواج ميسّرة عبر صندوق خاص من الدولة أو الجمعيات الخيرية لدعم المقبلين على الزواج.
لا يمكن فصل أزمة الزواج في سوريا عن المناخ العام الذي يعانيه البلد من آثار الحرب والتدهور الاقتصادي، لكن غلاء المهور يظل أحد أبرز العوامل الذاتية التي يمكن مواجهتها بتكاتف مجتمعي وجهد تشريعي وتوعوي صادق. فإعادة الاعتبار لقيمة الزواج كشراكة إنسانية، لا صفقة مالية، بات ضرورة لا ترفاً، إذا أردنا مستقبلاً متماسكاً ومجتمعاً سليم البنية.