الثورة – جهاد اصطيف:
تُدمّر المدن، وتنهض من الحروب، لكن حين يصبح التعليم تجارة، فإن الخسارة لا تكون فقط مادية، بل تخصم من رصيد المستقبل.. في حلب، كما في كثير من المدن السورية، بات التعليم عبئاً ثقيلاً، يحمل الأهل فيه دفتر حسابات أكثر مما يحمل الطفل دفتر الرسم.
رسوم مرتفعة جداً تصل أحياناً لنحو 16 مليون ليرة سورية، يثقل كاهل الأسر ويجعلها لا تستطيع تحمل تكاليف التعليم الخاص، مما يجبر بعض الأسر على بيع مدخراتها أو اللجوء إلى الديون لتغطية هذه التكاليف، وعلى الرغم من تعميم وزارة التربية والتعليم، صدر في نيسان الماضي، والذي شدد على منع رفع الأقساط وأجور الخدمات للعام الدراسي الجديد، إلا أن الواقع يعكس تجاهلاً واضحاً للقوانين، إذ تشهد الأقساط ارتفاعاً كبيراً وسط غياب الرقابة الفعلية وصمت رسمي يثير التساؤلات، مما يفتح الباب أمام تحايل المدارس الخاصة على التعليمات الرسمية، ويفرض تحديات جديدة أمام الأسر التي تكافح لتأمين تعليم أبنائها ضمن الإمكانيات المتاحة.
قصص تروى
ففي حي صلاح الدين الشعبي بحلب، وبين الأزقة التي مازالت تروي قصص من بقي فيها ومن عاد، كانت أم محمد تقلب دفتر حساباتها وتتنهد، العام الدراسي لابد قادم، وابنتها الصغيرة، تستعد لدخول الصف الأول مليون ليرة بالشهر!، تمتمت بصدمة، وهي تعيد قراءة الورقة التي أحضرها زوجها من إحدى الروضات الخاصة، لم يكن هذا المبلغ وحده، فهناك مستلزمات، ومصاريف أنشطة، وإذا تأخرنا بالدفع، تلحقنا غرامة، حتى وإن حصلنا على مقعد في روضة حكومية، فالخدمات سيئة، والتعليم ليس كما نرجو، والمدارس الخاصة، بعضها يطلب ملايين الليرات سنوياً.
يبدي أبو سامر من حي حلب الجديدة- أب لثلاثة أولاد بمرحلة رياض الأطفال والإعدادية والثانوية، انزعاجه من كثرة الطلبات التي فرضت عليه من قبل إدارات المدارس الخاصة، والتي تأتيه أحياناً عبر رسالة على “واتساب”.
ويبين أن الطامة الكبرى لا تقتصر هنا فقط، بل في تكلفة معاهد دورات الإعدادية والثانوية، فأقلها تبدأ من 500 دولار للإعدادية، ويمكن أن تتضاعف حسب المعهد والكادر والسمعة، فيما تزيد التكلفة لتصل إلى نحو 1000 دولار وسطياً للمرحلة الثانوية، ويقول: لم يعد أصحاب المدارس الخاصة والمعاهد يتقاضون سوى بالدولار!
تحويل التعليم إلى سلعة
تزامناً مع صرخات المواطنين من زيادة تكلفة التعليم، في المدارس والروضات الخاصة، وارتفاع أسعار الملابس والأدوات الدراسية بمعدلات هائلة، والمواصلات وكافة الخدمات، نتساءل هل يمكن أن تستعيد الحكومة بسياسات جديدة دور المدارس في صناعة أجيال قادرة على مواجهة المستقبل واحتياجات سوق العمل، وسط مشاهد متناقضة، تعاني منها مدارسنا العامة منذ سنوات من قلة الإمكانات وشح المدرسين، وتكدس مزمن للطلاب داخل الصفوف، أدى إلى اعتماد دوام الفوجين.
فالعديد ممن تحدثت معهم صحيفة الثورة يشيرون بشكل أو بآخر بأصابع الاتهام إلى المعنيين بتحويل التعليم إلى سلعة تهدر طاقات الأسر التي خارت قواها في مواجهة ارتفاع الأسعار مع تدهور قيمة الدخل، وانهيار الطبقة الوسطى التي لطالما اتخذت من التعليم وسيلة للرقي الاجتماعي والحفاظ على القيم الإنسانية، ويحذر هؤلاء من تراجع توفير التعليم باعتباره منفعة عامة، وتعميق عدم المساواة الاجتماعية على أساس من يستطيع تحمل التكاليف الدراسية، مشيرين إلى أن هذا الأسلوب يحرم غير القادرين من إتمام دراستهم، التي يمكن أن توفرها المدارس أو الجامعات الخاصة بمصروفات باهظة.
يوسف- طالب مرحلة أولى في مدرسة حكومية، يقول: إن عدد الطلاب في الصف يفوق الخمسين طالباً وطالبة، فالمعلم بالكاد يعطي الدرس وفي أغلب الأحيان، لا تتم المراجعة لأن الوقت لا يسمح، و الكثير من زملائي لا يفهمون الكثير من متطلبات الدروس، ويحاولون عن طريق الدروس الخصوصية التعويض.
آمال- معلمة صف، تقول: إن الوضع يحتاج إلى إعادة نظر في التعليم العام، لأن الكم الهائل للطلاب، وتكديسهم في الصفوف، أمام الخطط الموضوعة والبرامج لا تكفي لأن نوصل رسالتنا كما يجب، وبالخصوص أمام الراتب الزهيد الذي نتقاضاه، مقابل أجور معلمي ومدرسي المدارس الخاصة.
الشفافية مطلوبة
أمام ذلك، أولياء أمور طالبوا بالشفافية في تحديد رسوم المدارس والروضات الخاصة لوجود مدارس ترفع رسومها من دون أن تقدم أي جديد، فلابد من إيضاح سبب الزيادة، ولابد من الاعتراف أيضاً بوجود مدارس أسعارها خيالية بالمعنى الحرفي للكلمة، لافتين إلى أن هذه المدارس، ليست إلا مشاريع استثمارية، لا تستهدف سوى تحقيق أكبر نسبة من الأرباح، على حساب أولياء الأمور، الذين لا حول لهم ولا قوة، فأغلب المدارس الخاصة لا تعنيها الرسالة السامية، التي من المفترض أن تهتم بها كما يجب.
وأضاف أولياء الأمور: من الأجدى لوزارة التربية والتعليم، نشر تسعيرة واضحة بكل ما يتعلق بآلية عمل هذه المدارس وفق تصنيفاتها من دون أن تترك لأصحابها أي بند يلفه أي نوع من الغموض، مع تفصيل الأسباب، لافتين إلى أن العديد من المدارس يتم السماح لهم برفع رسومها من دون أن يشعر أولياء الأمور بأي تحسن، أو تطور ملموس على الجانب الأكاديمي والعلمي للمدرسة، الأمر الذي يدفع الكثير من أولياء الأمور للبحث عن مدارس أخرى أقل تكلفة، مؤكدين أن البعض، يصل عدد أبنائهم إلى 3 أبناء وربما أكثر، وأن استمرار السماح للمدارس الخاصة برفع رسومها، يضر كثيراً بميزانياتهم، خاصة وأن الدخول ثابتة ولم ترتفع، مشددين على أهمية وضع حدود قصوى، لرسوم رياض الأطفال من جانب، ورسوم المدارس من جانب آخر، مشيرين إلى أن هناك مدارس رسومها تعد خيالية، ولابد من إعادة النظر في هذه الرسوم وتخفيضها، بدلاً عن بحث طلبات المدارس زيادة الرسوم بصورة دورية، كما كان يحدث في السابق.
يؤكد أبو حسام- موظف، أن الأقساط التي تتحصل عليها هذه المدارس، مقابل الخدمات ليست بالمستوى المأمول، ويضيف: على الوزارة أن تراقب وتعاقب، لكن الواقع يقول إن كل مدرسة تضع السعر الذي يناسبها، وإن الكثير من الأهالي يشتكون من إلزامهم بدفع رسوم إضافية لأنشطة غير إلزامية، وفرض غرامات في حال التأخير.
أقساط بالدولار.. وهوة تكبر
في جولة بين بعض المدارس الخاصة، تبين أن عدة مؤسسات تعليمية باتت تطلب الأقساط بالدولار الأميركي أو ما يعادله بالليرة السورية حسب سعر الصرف، من دون التقيد بأي تسعيرة رسمية أو رقابة حقيقية، يبررون ذلك بارتفاع التكاليف التشغيلية لكن الأسعار مبالغ بها جداً جداً، ولعل القاسم المشترك بين هذه المدارس هو الكتمان وعدم الإجابة الواضحة على الهاتف لأي تفصيل مهم تقدمه كخدمة، وشبه توحيد للأقساط فيما بينها، بالخصوص في الأحياء الراقية كما هو الحال في حي الشهباء.. وهنا باتت الفجوة بين الأطفال الذين يستطيع أهلهم الدفع، وأولئك الذين لا يملكون هذا الخيار، تتسع يوماً بعد يوم.
تقول أم نافع: ابني يشعر بالنقص حين يرى زملاءه يتحدثون عن مدرسة فيها مسبح وصفوف مكيفة، في المقابل، يشير بعض المدرسين إلى أن التعليم الجيد لم يعد مرتبطاً فقط بالقدرات، بل بالقدرة على الدفع، حتى المعلم الجيد صار يبحث عن المدرسة التي تدفع أكثر، لا يهم جودة التعليم ولا رسالة المهنة للأسف.
وزارة التربية كانت قد أعلنت نيتها مراقبة الأسعار وتوسيع دعم المدارس الحكومية، بعد صدور قرار تحديد أسعار أقساط المدارس الخاصة وفق فئات وتصنيفات واضحة وفق ما يلي:
المرحلة الثانوية: 2450000 ليرة سورية، فيما الحلقة الثانية : 2100000 ليرة سورية، والحلقة الأولى من التعليم الأساسي 1750000 ليرة سورية، ورياض الأطفال : 1225000 ليرة سورية، مع وجود تسعيرات خاصة للمدارس ذات التصنيف الثالث والرابع “منخفضة التصنيف”، وتكون الأقساط أقل من ذلك، لكن مع ذلك حتى الآن لم يلحظ الأهالي أي تغيير فعلي، فالفجوة كبيرة بين التسعيرة الرسمية والواقع الذي يعيشه المواطن، وترفع المدارس رسومها بشكل مبالغ فيه وغير مبرر، مع وجود حالات تطلب أقساطاً تصل لملايين الليرات وأحيانا بالدولار.
لم نعد نحتمل!
كثير من الناس فقدوا الأمل، أمام هذه الحالة، وباتوا ينظرون إلى التعليم بوصفه عبئاً جديداً في حياة لم تعد تحتمل المزيد من الضغوط والتحديات، ففي مدينة تحاول أن تنهض من ركام الحرب، يبدو أن التعليم أصبح معركة أخرى، معركة يخوضها الأهل كل عام، ليست من أجل التفوق، بل من أجل مقعد بسيط في مدرسة خاصة.