أحمد نور الرسلان – كاتب صحفي
من بين الأزقة المتواضعة في مشهد، وعلى وقع تحولات الشرق الأوسط، صعد علي خامنئي من شاب مولع بالأدب والسياسة إلى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، حاكم إيران الفعلي وصانع استراتيجياتها الإقليمية، لم يكن مجرد رجل دين يرتدي العمامة السوداء، بل قائد مشروع عقائدي وسياسي وعسكري عابر للحدود، امتد ليشمل أربع عواصم عربية، وارتبط اسمه بحروب، اغتيالات، ثورات مضادة، وتحالفات عقائدية صلبة قلبت موازين المنطقة.
ولد خامنئي عام 1939 في مشهد لعائلة دينية فقيرة من أصول أذرية، وشق طريقه مبكراً إلى الحوزات العلمية، متأثراً بأفكار متباينة بين الماركسية والإسلام السياسي السنّي، قرأ لفيكتور هوغو وتولستوي، وتأثر بسيد قطب، لكنه كرّس حياته لاحقاً لخدمة نظرية “ولاية الفقيه” التي آمن بها معلمه روح الله الخميني، وأصبح لاحقاً وريثه الوحيد في الحكم بعد وفاته عام 1989.
دخل خامنئي معترك السياسة مبكراً، وشارك في الثورة ضد حكم الشاه، تعرض للسجن والتعذيب، وتعرّض لمحاولة اغتيال عام 1981 تركت أثراً جسدياً دائماً في يده اليمنى، تولى لاحقاً منصب رئاسة الجمهورية، ثم خُصّب دستورياً ليُنتخب مرشداً أعلى عقب وفاة الخميني، رغم عدم امتلاكه آنذاك الشروط الفقهية الكاملة لهذا المنصب.
في ظل قيادته، تحولت نظرية “تصدير الثورة” إلى مشروع استراتيجي توسعي، استخدم فيه الحرس الثوري و”فيلق القدس” كأذرع عسكرية واستخباراتية لبناء نفوذ إيراني في العراق ولبنان وسوريا واليمن، كان حزب الله اللبناني ذراع طهران الأهم، حيث ربط خامنئي مصيره الشخصي بمصير الحزب، ومنحه الدعم الكامل سياسياً ومالياً وعسكرياً.
أسس خامنئي شبكة ميليشيات عقائدية عابرة للدول تعمل وفق منهج “ولاية الفقيه”، وشكّلت هذه الشبكات أدوات تنفيذية لمشروعه الإمبراطوري، وداخل إيران، عزز نفوذه عبر جهاز الحرس الثوري والمؤسسات الدينية والقضائية، مكرساً حكماً شمولياً صارماً يقمع فيه أي بوادر احتجاج أو تمرد داخلي.
لم يتردد خامنئي في دعم نظام بشار الأسد منذ اللحظة الأولى للثورة السورية، واعتبر سقوطه تهديداً وجودياً لمشروعه الإقليمي، موّل النظام بالمال والسلاح والمقاتلين، ودفع بميليشيات من لبنان والعراق وأفغانستان وإيران إلى ساحات القتال، لتحويل سوريا إلى ساحة اختبار مفتوحة لنفوذ طهران.
وبرر دعمه للأسد بالقول إن المعركة في سوريا هي “حرب الإسلام على الكفر”، معتبراً أن الدفاع عن دمشق هو دفاع عن طهران، ساهم في تهجير ملايين السوريين ودمار المدن، وفرض حضوراً عسكرياً واستخباراتياً واسعاً على الأرض السورية، إلى أن سقط نظام الأسد في تشرين الأول 2024 على يد “قوات ردع العدوان”، وهو ما مثّل ضربة استراتيجية قاتلة للمشروع الإيراني في المشرق.
مثلت عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول 2023 نقطة تحوّل كبرى، فبينما دعمت طهران العملية عبر فصائل مرتبطة بها في غزة ولبنان والعراق، جاءت الردود الإسرائيلية ساحقة، فاغتيل إسماعيل هنية وقادة الصف الأول في بيروت وطهران، وتم إنهاء فعالية حزب الله عبر ضربات موجعة، كما استُهدفت منشآت نووية في عمق إيران، وقُتل كبار جنرالات الحرس الثوري.
فقد خامنئي نفوذه في سوريا ولبنان، وتعرّض لأول مرة لتهديد مباشر بالاغتيال من الولايات المتحدة وإسرائيل، ودخلت إيران مرحلة من الهشاشة الأمنية والعسكرية غير المسبوقة، وتزامن تآكل النفوذ الخارجي مع أزمات داخلية متفاقمة: احتجاجات شعبية متكررة، أزمة اقتصادية خانقة، وانقسام في النخبة السياسية والدينية حول مستقبل النظام. ورغم كل ذلك، يواصل خامنئي التشبث بالسلطة، متمسكاً بـ”الثوابت” ومتوعداً بالرد على أعداء الجمهورية الإسلامية، بينما ينظر إليه كثيرون داخل إيران كرمز للأزمة، لا الخلاص منها.
خامنئي اليوم ليس فقط شخصية سياسية أو دينية، بل تجسيد لمشروع سياسي ضخم أعاد تشكيل خريطة المنطقة لعقود، لكن السنوات الأخيرة، من سقوط نظام الأسد إلى تفكك “محور المقاومة”، ومن انكشاف الداخل الإيراني إلى استهدافه بالضربات الإسرائيلية، أظهرت هشاشة هذا المشروع، وربما ملامح نهايته.
وفي ظل التغيرات المتسارعة، يبدو أن إيران ستواجه في مرحلة ما بعد خامنئي – أو في نهايات حكمه – استحقاقاً تاريخياً مفصلياً: إما الانكفاء نحو الداخل وبناء دولة قابلة للاستمرار، أو الاستمرار في وهم الهيمنة، وهو ما قد يقود إلى انفجار داخلي لا يمكن احتواؤه.