الثورة – مها دياب:
ليس ضيق الحال فقط ما يؤلم، بل الاعتياد عليه، حين تصبح الضروريات مادة للحسابات، والأحلام شيئاً يؤجل يوماً بعد يوم، تتكون طبقات من التعب داخل البيوت التي لا يطرقها سوى السؤال: كيف سنكمل الغد؟!.
في هذه الزوايا المغمورة بالصمت، لا يقاس الألم بالصوت، بل بعمق السكون الذي يخلفه عجزلا يقال، واحتياجات تخفى خلف ابتسامات متعبة كي لا تثقل الصغار.
مايا، موظفة وأم لثلاث فتيات، إحدى آلاف النساء اللواتي تعلمن أن يتقاسمن الراتب مع كلّ شيء ما عدا الراحة، اعتادت حساب الرغيف والدفتر والدواء، لا لمجرد التنظيم، بل لأن الخيارات ضئيلة والتنازلات كثيرة.
تقول بنبرة من خبر التعب أكثر مما يجب: “اعتدنا أن نضحك كي لا ينهار الجو من حولنا، ليس لأننا كنا بخير، بل لأننا لم نملك ترف الانهيار”.
حين صدر إعلان زيادة الرواتب بنسبة 200 بالمئة، لم تمسك الخبر كمجرد رقم مالي، بل كمفتاح صغير استدار أخيراً في قفل طال صمته.
“لم أحلم بأشياء كبيرة، فقط أن أشتري فستاناً جديداً لابنتي من دون أن أعد الأيام المتبقية لنهاية الشهر، أو أن أسجلها في دورة تعليمية تحبها من دون أن أفكر ما الذي سأحذف من وجبة الغذاء المقابلة.
” تلك اللحظة لم تكن مجرد انعطافة اقتصادية، بل وجدانية، استعادت فيها شيئاً من روح كانت على وشك الخفوت.
“كتبت قائمة مشتريات، ليس لأنني سأشتري كلّ ما فيها، بل لأنني شعرت أنني أستطيع أن أختارمن جديد… أن أتخيل، لا أن أؤجل”.
وفي لفتة قد تبدو للبعض بسيطة لكنّها تختصر حياة، وعدت بناتها بشراء كعكة. “لن تكون فاخرة، ولكننا سنختار نكهتها معاً، وإذا تبقى ما يكفي، سنشتري شمعاً، لا لنحتفل بمناسبة، بل لنضيء لحظة خفيفة وسط هذا الثقل.
” وحتى الرغبة بشراء بلوزة جديدة لنفسها لم تكن عن مظهر، بل عن كيان لم يرد أن ينسى: “أريد فقط أن ألبس شيئاً يشبهني.. لأتذكر أنني ما زلت أنا.
” هكذا، جاءت الزيادة المالية لأمثال مايا كرسالة غير مكتوبة مفادها: الحياة لم تدر ظهرها تماما بعد.
ورغم الخوف من أن تلتهم الأسعار هذا المكسب سريعاً، يبقى في القلب رجاء أن تنضج هذه اللحظة ولا تخطف، أن تستقر على هيئة تنفس جديد، لا وهم مؤقت..
ولأن الأمل، مهما بدا هشاً، لا يحتاج سوى إلى فرصة صغيرة كي يعيد الإنسان تشكيل أيامه من جديد، ولو بكعكة عادية، وشمعة تضاء من غير مناسبة.
في الوقت المناسب تقول الاختصاصية الاجتماعية نور إبراهيم: أن زيادة الرواتب جاءت في الوقت المناسب، بعد سنوات عجاف ذاق خلالها المواطن ويلات الحاجة، واضطر أن يمدّ يده بأشكال مختلفة، لأن الراتب الذي كان يتقاضاه لا يسدّ الرمق.
وجاءت هذه الزيادة استجابة لمتطلبات المواطنين، وكانت فعلاً مجزية والأعلى والأكبر مقارنة بالزيادات التي كانت تصدر في زمن النظام المخلوع بنسب متدنية وتبتلع سريعاً بارتفاعات الأسعار، مما خلف آثاراً عكسية على حياة المواطن السوري.
وأضافت: هذه المرة، ستكون للزيادة منعكسات إيجابية وآثارعديدة على المواطنين والأسواق والحركة التجارية على حدّ سواء، وستسهم في زيادة القوة الشرائية، بشكل يلمسه المواطن السوري مباشرة، خاصة أصحاب الدخول المتدنية.
من الناحية النفسية قالت الاختصاصية إبراهيم: مجرد شعورالفرد أنه قادرعلى شراء كعكة أو بلوزة أو تسجيل أطفاله في دورة تعليمية، يعيد له شيئاً من السيطرة على حياته، ويمنحه شعوراً بالكرامة.
هذه التفاصيل الصغيرة، التي قد تبدو للبعض هامشية، هي في الحقيقة صمامات أمان تحفظ التوازن النفسي داخل الأسرة، وتمنح الأطفال صورة أكثر أمناً عن المستقبل.