الثورة – سيرين المصطفى
لطالما شاهدنا على وجوه جداتنا في ريف إدلب، رسومات جميلة بلون أزرق غامق، أشبه بالوشوم الموضوعة على الأجساد، ثابتة لا تتبدل ولا تزول بالغسيل أو بأي طريقة أخرى، نادراً ما يُمكن أن نجد سيدة من ذلك الجيل دون رسوم على وجهها، أو يديها، أو قدميها، أو جبينها.
رافقت هذه الرسومات السيدات طوال العقود الماضية، ولم تتغير، رغم تغيّر ملامح الوجوه التي غزتها التجاعيد مع التقدم في العمر، وكانت كل واحدة منهن تنظر إليها لتستحضر من خلالها أيام الصبا وذكريات الشباب، وكأنها جزء لا ينفصل عن ملامحها وهويتها الأولى.
صحيفة “الثورة” التقت ببعض أولئك السيدات لتنقل تفاصيل “الدقّ”، واحدة من العادات التي تمسكت بها النسوة في فترات من القرن الفائت لأسباب عدة نعرضها لكم ضمن هذا التقرير.
اعتادت سيدات من الأجيال التي سبقت منتصف القرن الماضي، أن يرسمن على أجسادهن رسوماً عُرفت آنذاك باسم “الدقّ”، بحسب ما روته لنا بعض الجدات اللواتي التقينا بهن، كانت هذه العادة تُعد جزءاً من طقوس الجمال في ذلك الزمن.
وقالت نعوس الصالح، 75 عاماً، إن”الدقّ” كان يُعد من أبرز وسائل الزينة التي تلجأ إليها المرأة، لتحافظ على مظهرٍ حسن في نظر نفسها وفي أعين الآخرين من الرجال والنساء على حد سواء، إذ كان يُنظر إلى تلك العادة كرمزٍ للجمال والأنوثة والاكتمال.
وتابعت، أن النساء في تلك الحقبة، كنّ يتنافسن على وضع “الدقّ” بدافع الغيرة والمفاخرة، وكانت السيدات ينتظرن على أحرّ من الجمر، قدوم جماعات “النّوَر” و”القرباط(رحّل كانوا يجوبون القرى حاملين أدواتهم الخاصة لرسم الوشوم على أجساد النساء والفتيات).
هذا التقليد لم يقتصر على منطقة بعينها، بل كان شائعاً لدى العديد من القبائل والعشائر في سوريا، حيث شكّل “الدقّ” جزءاً من مفاهيم الجمال والأنوثة، وأسهمت في جذب أنظار الرجال ونيل إعجابهم.
وتحمل بُعداً تراثياً متوارثاً.
وقد اقتصر تنفيذها على مناطق محددة ظاهرة من الجسد، كَالوجه واليدين، باستخدام أدوات بدائية، بينما تنوّعت أشكالها وأسماؤها بين “هليّل”، و”سيّالة”، و”اللّجام”، و”مراوِد”، وغيرها، وكل منها يحمل دلالة أو معنى خاصاً في ثقافة ذلك الزمان.
لم تقتصر أسباب وشم الدقة على الجانب الجمالي فحسب، بل وجدت بعض النساء فيه وسيلة للشعور بالراحة النفسية، في حين اعتقدت أخريات أن له دوراً في الحماية من الشر والحسد، وكان من الشائع أيضاً رسم الوشم في مواضع الألم الجسدي.
تقول الحاجة عاشة رزوق، 80 عاماً: “كنت دوماً مشغولة بالعجين والخبز، ويدي كانت تتعب وتتألم من هذه المهمة، لذلك وشمت كل من يدي كي يخف الألم بحسب ما كنا نعتقد في ذلك الوقت، مع مرور السنوات اكتشفنا أن الأمر غير صحيح”.
حلومة الحسين، 82 عاماً، نقلت لنا طريقة الدقّ، وقالت؛ عندما كان عمري 14 عاماً، زارت منزلنا واحدة من النوريات لتطلب شربة مياه، فسألتها أمي إذا ما كانت تعرف كيف تدقّ على الجسم، وبالمقابل ستعطيها حليباً، من خلال إبرتين ملتصقتين صارت توخزني على ذقني، وكان موجعاً، لدرجة لا تحتمل، لكن مع تكرار الوخز لم أعد أشعر بالألم”.
وأضافت: “استخدمت حيها إبرتين وكحل، ثم مزجته بقليل من الماء، ثم رسمت الشكل الذي تريده بعود، وبعدها وضعت الكحل على الرسم، وقامت بوخز مكان الرسم بالإبرتين الملتصقتين، كي يدخل الكحل في طبقات الجلد”.
أسباب اختفاء عادة الدق مع مرور الزمن، بدأت هذه العادة تختفي بسبب تغيرات اجتماعية وثقافية، وابتعاد الناس عن الطقوس التقليدية، بالإضافة إلى تراجع الجماعات الرحالة التي كانت تقوم بتنفيذ هذه الرسوم، وظهور وعي صحي يقلل من الوخز والوشم.
ورغم اختفاء عادة الدقّ في الوقت الحالي، إلا أن الوشوم التي تحملها الجدات تبقى جزءاً من تراث ريف إدلب، تحكي قصة جمال وهوية الأجيال السابقة، وتبقى في ذاكرة من عاشوها.