الثورة – عمار النعمة:
شهدت دراسات الترجمة في العقود الأخيرة من القرن العشرين تحولًا كبيراً في المفاهيم، إذ لم تعد الترجمة تُفهم باعتبارها مجرد عملية نقل لغوي مباشر من لغة إلى أخرى، بل أضحت فعلاً تأويلياً يتطلب إبداعاً وفهماً معمقاً للسياقات الثقافية والاجتماعية والفكرية.
في هذا الإطار المعرفي يأتي كتاب (فصول في التأويل ولغة الترجمة) بوصفه محاولة جادة لإعادة التفكير في فعل الترجمة ومفهوم “لغة الترجمة”، مقدّماً إطاراً نظرياً يجمع بين التأويل والاختلاف، ويربط بين النص المترجَم وبيئة المتلقي والمترجم على السواء.
ينطلق المؤلفان، عمر شيخ الشباب وسمير الناصر، من فرضية مفادها أن النص المترجَم لا يُعدّ انعكاساً للنص الأصلي، بل هو نص جديد يتم إنتاجه ضمن منظومة معرفية وثقافية مختلفة، بوصفه قارئاً مبدعاً لا يكتفي بفهم النص، بل يعيد كتابته ضمن بنيات لغوية وثقافية محلية.
ويقترح الكتاب أن للترجمة “لغة” خاصة بها، تقف على مسافة من اللغة المصدر واللغة المستقبلة، وهي نتاج للتأويل المتعدد وغير المستقر.
يعرض الكتاب في فصوله الأولى نظرة نقدية لتطور مناهج دراسة الترجمة في الغرب، مشيراً إلى التحول من المدرسة الحرفية إلى مناهج تأويلية وثقافية، كما يقدم إطاراً تحليلياً خاصاً يدمج بين التأويل والإبداع، مع التركيز على علاقة الترجمة بالمجتمع والبيئة الثقافية، ويستعين المؤلفان بتحليلات دقيقة لتراجم أدبية ودينية، مثل تحليل ترجمات “هاملت” إلى العربية، وقصائد “شكسبير”، وأكثر من ثلاثين ترجمة للقرآن إلى لغات أوروبية منذ القرن الثاني عشر.
بيئة المتلقي وتأثيرها على التأويل
يركز الكتاب على أهمية المتلقي في تشكيل النص المترجَم، ويتناول هذا البعد من خلال دراسات استقصائية وتحليلية تبين كيف يتفاعل جمهور معين مع تعبيرات جديدة أو اصطلاحات مترجمة، وتظهر نتائج هذه الدراسات أن قبول الترجمة أو رفضها مرتبط بالبيئة الاجتماعية والثقافية للمتلقي، وهو ما يدعو إلى اعتبار فعل الترجمة نشاطاً تواصلياً متغيراً يعتمد على الزمن والمكان والسياق.
يسلط المؤلفان الضوء على تطور “ثقافة ترجمة” خاصة بالمترجمين العرب، ويدعوان إلى ضرورة توثيق هذه التجربة الغنية عبر القرون، بما تحمله من رؤى وأساليب واستراتيجيات، ويرى الكتاب أن هذه الثقافة لم تلق العناية الكافية في الدراسات الأكاديمية، رغم أثرها العميق في تشكيل الوعي اللغوي والثقافي في العالم العربي.
يمثل الكتاب مساهمة أصيلة في حقل دراسات الترجمة، لأنه يجمع بين الجانب النظري العميق والتحليل التطبيقي الدقيق، إنه لا يكرر ما أنتجته مراكز البحث الغربية، بل يقدم بناءً معرفياً جديداً نابعاً من بيئة عربية لها خصوصيتها الثقافية والتاريخية، ويعطي الكتاب أولوية لفهم الترجمة من منظور ثقافي تأويلي، يمكن أن يُوظف عملياً في نقد الترجمات وتعليمها وتطويرها مستقبلاً.
في الختام نقول: ليست الترجمة مجرّد مرآة للنص، بل هي كما يؤكد هذا العمل، فعل إنتاجي يعيد تشكيل المعاني في ضوء الثقافة والعقل الجمعي للمتلقي، ومن خلال هذا المنظور، تتسع آفاق دراسة الترجمة لتشمل اللغة والإبداع والهوية، إنها دعوة لإعادة اكتشاف الترجمة بوصفها ممارسة فكرية وثقافية وحضارية بامتياز.