الثورة – علا محمد:
نظم مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في “جامعة دمشق” اليوم حلقة نقاشية بعنوان “ملامح الاقتصاد السوري وآفاقه المستقبلية” قدمها أستاذ الاقتصاد ورئيس هيئة تخطيط الدولة سابقاً الدكتور تيسير الرداوي، وذلك في قاعة “رضا سعيد” للمؤتمرات.
محاورٌ عديدة تناولها الدكتور الرداوي، بدءاً من أسباب تردي الوضع الاقتصادي في فترة النظام البائد وصولاً لمهام الدولة في هذه المرحلة للنهوض الاقتصادي وبناء سوريا الجديدة، فتحدث خلال الجلسة عن هيمنة الدولة في النظام السابق على الاقتصاد وبالتالي على المجتمع والإنتاج، مبيناً حالة الاستبداد التي فرضتها والتي اعتمدت الغموض وتخدير الشعب لفترات زمنية بعيدة لتعزيز السلطة الاستبدادية
وبحسب الرداوي- لم يكن لتلك المرحلة نظرية اقتصادية حقيقية بل كانت تطلق شعارات بلا معنى، معتمدة مسرحية ” اقتصاد السوق الاجتماعي” كصيغة متبعة، ضاربة عرض الحائط فقر المجتمع وحالة التردي، لتكون هذه الصيغة وسيلة لاستبداده ومجالاً للنهب والعبث.
وبعد التحرير، تبرز رؤية الرداوي للنهوض بالوضع الاقتصادي باعتماد “اقتصاد سوق اجتماعي حر، تنافسي، شريطة عدم تكرار ما كانت عليه الدولة فيما سبق من تدخل وهيمنة، بل وضع آلية ربط بين السوق ومهام الدولة الاجتماعي من منطلق اعتماد كل منهما على الآخر.
مهام الدولة كما يراها الرداوي تتضمن الإشراف بشفافية على آلية السوق وحسن سير العمل فيه ومعالجة الاحتكار وعمليات الغش، بالإضافة إلى ضرورة وضع نظام ضريبي عادل متوازن بالاعتماد على متخصصين، الأمر الذي يساعد الدولة على التماسك وصعود اقتصاد السوق الاجتماعي.
مشاريع التنمية الكبرى، وتحقيق العدالة الاجتماعية بمحاربة الفقر وتوفير فرص العمل وغيرها، كلها أيضاً من مهام الدولة التي تحتاج- وفق الدكتور الرداوي- لمواد دستورية دقيقة.
وباعتبار أن الجلسة حلقة نقاشية طرح الحضور عدة مداخلات ناقشوا فيها الشكل الأنسب للاقتصاد في المرحلة الانتقالية وكيفية الاستثمار بما يتناسب مع تطلعات الشعب السوري، إذ أكد الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية “جامعة دمشق” الدكتور سعيد مسلم، على أن تغول الدولة على الاقتصاد تحت شعارات جذابة هي بالأصل خادعة جل ما جلبته تعاظم الاستبداد وعدم وضوح الرؤى والسياسات وبالتالي هوية الاقتصاد، وبين أن هذه التجارب سواء في سوريا وغيرها من دول العالم تفرض على القيادة الجديدة والاقتصاديين رسم مشهد مختلف لحماية الملكية الفردية واعتماد نهج اقتصادي واضح يقوم على الحرية الاقتصادية والسوق الحر بعيداً عن شهوة التملك السلطوي والتغول ما يعيدنا إلى المربع القديم وإخفاقات الماضي وهذا ما لا تنتظره التغييرات والأماني الثورية
وفي تصريح لـ”الثورة”.. ورداً على سؤالنا حول أثر رفع العقوبات عن سوريا، باعتباره المشهد السياسي والاقتصادي المتصدر في هذه المرحلة، أكد الدكتور الرداوي أن الأثر سيكون كبيراً في حال تحقق فعلياً، قائلاً: “إذا كانت نية رفع العقوبات حقيقية وصحيحة، فإن ذلك سيكون له أثر عظيم جداً على السوق السورية وعلى إعادة تحريك عجلة الاقتصاد الوطني”
لكنه حذّر في الوقت ذاته من المبالغة بالتفاؤل السريع، موضحاً أن العقوبات تُفرض بسرعة وتُرفع ببطء، وأثرها لا يُمحى فوراً بل يحتاج إلى وقت طويل.
الدولة تُمكّن ولا تُنتج
وفي معرض حديثه عن دور الدولة بعد رفع العقوبات، شدد الرداوي على أن الدولة ليست جهة إنتاج بل جهة تمكين وتوجيه، ومهمتها الأساسية هي الإشراف على السوق، ضمان نزاهته، وتوفير الخدمات الأساسية كالصحة، التعليم، السكن، والعمل للفئات المحتاجة
أما دور القطاع الخاص برأي الرداوي، فهو في صلب العملية الاقتصادية القادمة، إذ وصفه بـ”السيد” و”قائد السوق”، مؤكداً أن القطاع الخاص هو المحرّك الحقيقي لأي عملية تنمية شاملة.
كما أوضح أن التنمية الاقتصادية لا تتحقق إلا عبر المشاريع الكبرى مثل مشاريع الطاقة والسدود والموانئ والمطارات والسكك الحديدية، قائلاً: “المشاريع الكبرى هي التي تُحدث تحولاً حقيقياً في بنية الاقتصاد وتُعطي دفعة قوية للنمو، بينما تبقى المشاريع الصغيرة والمتوسطة مهمة ولكنها مكمّلة وليست بديلة”
تفوق نسبي عالمياً
وعن ماهية القطاعات الاقتصادية المستفيدة بشكل أكبر من رفع العقوبات من وجهة نظر د. الرداوي، دعا إلى تركيز الجهود الوطنية على القطاعات التي تملك سوريا فيها ميزة تنافسية عالمية، معدّداً منها، صناعة دبس البندورة والكونسروة والفستق الحلبي والمنتجات الزراعية التحويلية والكوادر البشرية المؤهلة، مشيراً إلى إمكانية تنافس سوريا في صناعة الكاتشب عالمياً، معتبراً أن التفوق يبدأ من إدراك ما نمتلكه فعلاً من قدرات.
ورداً على سؤال حول دور التعليم العالي في دعم التنمية، أكد الرداوي أن ربط الجامعات بالقطاعات الإنتاجية أمر أساسي في السياسات الحديثة، قائلاً: “واجب الدولة هو تمكين المؤسسات من استخدام التكنولوجيا، وبناء علاقات مباشرة بين التعليم العالي والقطاع الإنتاجي، بما يسهم في رفع كفاءة السوق والمؤسسات معاً “.
مركز الدراسات
رئيس مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في جامعة دمشق الدكتور معروف الخلف قال في لقائه مع “الثورة”: “إن هذه المحاضرة ليست فعلاً منفرداً، بل جزءاً من خطة المركز لتسليط الضوء على القضايا الساخنة التي تهم المجتمع السوري، سواء في أبعادها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، وذلك من خلال الحوار العلمي والمباشر مع الجمهور والنخب الفكرية”.
وأضاف: “نسعى من خلال هذه الحلقات إلى بلورة خلاصات تُرفع إلى صنّاع القرار، وتقديم مقترحات عملية تساهم في صياغة سياسات واقعية تتناسب مع متطلبات المرحلة المقبلة”
تأتي هذه المحاضرة في سياق توجّه جامعة دمشق لتعزيز دورها في إنتاج المعرفة وتوجيهها نحو خدمة التنمية الوطنية، بالتعاون مع الخبرات الوطنية ومؤسسات الدولة، وفي توقيت حاسم يشهد فيه الاقتصاد السوري متغيرات جوهرية واحتمالات انفراج تدريجي في ملف العقوبات، ما يتطلب قرارات مدروسة ومبنية على رؤية علمية واضحة.