الثورة – مها دياب:
في عمر يصبح فيه الصمت رفيقاً دائماً، لا تقال كلّ الآلام، وبعضها يختبئ خلف فم مغلق لا لسبب سوى الإهمال، إذ تتباطأ الذاكرة وتكفّ الحياة عن الركض، لا يعطى ألم الفم ما يستحقه من انتباه، رغم أنه يسلب كبارالسن أهم تفاصيل راحتهم..
طعم الأكل، نقاء الحديث، وبهجة الضحك.
الدراسة التي أجرتها الدكتورة غيثاء علي جديد، اختصاصية طب الفم في كلية طب الأسنان، تكشف بأسلوب علمي وإنساني كيف يمكن لتفصيلة صغيرة كفرشاة منسية أو ضرس مخلوع دون تعويض، أن تخل بتوازن حياة يومية هادئة.
والتأثير ليس عن الأسنان فحسب، بل عن الاحتواء الذي يبدأ من العناية، والتقديرالذي يترجم من خلال روتين صحي بسيط ولكنّه عميق الأثر، فالعناية التي تبدأ من الفم قد تعيد للمسن صوته، لقمته، وضحكته تماماً كما تستحق أيامه المتبقية بأن تكون أكثر لطفاً، وأقل ألماً.
غياب الأسنان
تؤكد الدكتورة جديد أن صحة الفم لا تنفصل عن نوعية الحياة، وتقول: “العناية اليومية بالفم لا تقل أهمية عن تقديم الطعام أو الأدوية، هي ببساطة ترجمة لمحبّة حقيقية في دور الرعاية، تتحول فيها فرشاة الأسنان إلى رمز صغير لعلاقة الإنسان بجسده، وبمن يعتني به.
وتشير الدراسة إلى أن نسبة كبيرة من المسنين قد فقدوا أسنانهم من دون تعويض، ونوّهت بأن غياب الأطقم الصناعية لا يعني فقط صعوبة تناول الطعام، بل أيضاً تراجع القدرة على النطق والضحك، ما يؤدي إلى انزواء تدريجي عن الأنشطة الجماعية، فالفم الذي لا يؤدي دوره، يفقد صاحبه راحته والإحساس بالحضورالكامل في الحياة.
التهاب اللثة وجفاف الفم
تقول د. جديد: “يعد التهاب اللثة من أكثر الأمراض شيوعاً في الشيخوخة والالتهابات المزمنة فيها تؤدي إلى انحسارها وجعلها في حالة نزيف مستمر، وتؤدي إلى فقد تدريجي وكامل للأسنان.
كما نوّهت بأن الرجال -غالباً- تكون التهابات اللثة لديهم أشد من النساء بسبب البنية وطريقة الغذاء وأن هذا الموضوع ليس بسيطاً وعابراً، بل قد يمتد إلى درجة الفقدان التدريجي للقدرة على المضغ والتحدث براحة.
ولفتت إلى موضوع جفاف الفم الشائع جداً بين كبار السن انه في الغالب يحدث بسبب تناول أدوية متعددة مثل مدرات البول والمهدئات.. إذ تؤدي إلى انخفاض إفرازاللعاب، ما يسبب بيئة فموية جافة تساعد على انتشارالنخور وحين يغيب اللعاب، يغيب خط الدفاع الطبيعي، وتدخل العدوى من دون مقاومة.
السكري والتدخين..
ثنائي يتحدى الصحة شدّدت د. جديد على أن السكري والتدخين يشكلان تحديين رئيسيين لصحة الفم لدى كبارالسن، فالسكري يؤدي إلى ضعف الجهازالمناعي وصعوبة مقاومة الالتهابات، مما يزيد من احتمال نزيف اللثة وتكون الجير وتراجع العظم المحيط بالأسنان، كما يسبب انخفاضاً في إفراز اللعاب، الأمرالذي يؤدي إلى جفاف الفم ويسرع في ظهورالتسوس ويؤخر شفاء الجروح بعد أي إجراء فموي.
أما التدخين، فأثره مضاعف إذ يُقلل من تدفق الدم إلى الأنسجة اللثوية، ويضعف قدرتها على التعافي، ويزيد من التهابات اللثة ورائحة الفم الكريهة.
لذلك كبارالسن المدخنون أكثرعرضة لفقدان الأسنان، ويواجهون صعوبة أكبر في الاستجابة للعلاجات الفموية مقارنة بغير المدخنين.
التوعية المبكرة
وأوضحت أنه في كثير من الحالات، لا تكون مشكلات الفم لدى المسنين ناتجة عن التقدّم في العمر بقدرما هي انعكاس لعوامل اجتماعية متراكمة كالفقر، وقلة التعليم، وغياب الوعي الكافي بصحة الفم، جميعها تترك أثراً عميقاً يترجم في الشيخوخة إلى فم مهمل، وألم مزمن لم يمنح في الماضي حق الرعاية.
كما تؤكد د. جديد على أن التصدي لهذا الإهمال يبدأ بخطوات واقعية، مثل تدريب العاملين في دورالرعاية على العناية اليومية بالفم، توفير أطقم أسنان بأسعار ميسرة، وتكثيف الزيارات الطبية المنتظمة إلى المراكز، إلى جانب حملات توعية بصرية مبسطة تناسب مختلف المستويات التعليمية.
وتشدد على أن الحل لا يقتصرعلى التدخل المتأخر، بل يجب أن يبدأ في وقت مبكر جداً، فبناء ثقافة العناية الفموية منذ الطفولة هو استثمارفي حياة خالية من الألم في الكبر وتعليم الأطفال استخدام الفرشاة بانتظام، وضرورة تقليل السكريات، وزيارة طبيب الأسنان مرتين في السنة، هي خطوات بسيطة لكنها تؤسس لعادات مستدامة.
وتوضح أن الصحة الفموية ليست مرحلة طارئة، بل سلوك مستمر يبدأ من الطفولة ويرافق الإنسان حتى الشيخوخة، ليمنحه القدرة على التذوق، التواصل.
رعاية تبدأ من الفم
وفي ختام حديثها، تؤكد الدكتورة جديد أن صحة الفم ليست تفصيلاً ثانوياً، بل هي باب الراحة الأولى في الشيخوخة بأن نمنح كبارنا القدرة على الأكل بلا ألم والحديث من دون خجل، هو أبسط أشكال الوفاء لما قدموه، وتوصي كلّ من يعمل في مجال الرعاية الصحية أو في رعاية المسنين ضمن العائلة، بأن تبدأ العناية من الفم أولاً ففي كل ابتسامة نعيدها، نمنحهم إحساساً بأننا نراهم ونفهمهم ونحبّهم بما يكفي للاهتمام بأدق تفاصيل صحتهم.