ضياء قدور كاتب وباحث سوري :
في أعقاب النزاع الإيراني-الإسرائيلي الذي استمر اثني عشر يوماً، ومع تفاقم الأزمات الداخلية والبنية المتصدعة لنظام ولاية الفقيه، يبدو أن إيران تقف اليوم على مفترق طرق وجودي.
لا يتعلق الأمر بمرحلة عابرة من عدم الاستقرار، بل بمرحلة تعيد صياغة هوية النظام الإيراني، وتفتح الباب أمام تحولات جذرية طال انتظارها من الشعب الإيراني والمجتمع الدولي على حد سواء.
لطالما تميز النظام الإيراني بسياسات قائمة على القمع الداخلي والتوسع الخارجي.. أنفق المليارات على مشاريع عسكرية وبرامج نووية سرية، إضافة إلى تمويل جماعات مسلحة في المنطقة كحزب الله، والحوثيين، وحماس.
هذا الانخراط العسكري الإقليمي لم يكن سوى وسيلة لتثبيت النفوذ الجيوسياسي وتصدير الأزمة إلى الخارج، لكنه في الوقت نفسه سحب الموارد من الداخل، وحرم الشعب الإيراني من أبسط حقوقه في التنمية والعدالة.
كشف المعارضون الإيرانيون في مطلع الألفية الثالثة عن أبعاد البرنامج النووي السري للنظام، الذي لم يكن هدفه الاستخدام السلمي كما زعم، بل امتلاك سلاح نووي يعزز قوة النظام وشرعيته.
ورغم محاولات المجتمع الدولي كبح هذه الطموحات، خصوصاً عبر اتفاق فيينا 2015، فإن النتيجة العملية كانت ضخ عشرات المليارات إلى النظام دون رقابة حقيقية على سلوكه، ما مكّنه من تعزيز أدواته القمعية داخليًا، وتمويل وكلائه خارجيًا.
اليوم، تتغير المعادلة. الهزيمة الرمزية في الحرب الأخيرة مع إسرائيل، التي فجّرت الداخل الإيراني نفسيًا واجتماعيًا، أظهرت هشاشة العقيدة الأيديولوجية التي طالما استخدمها النظام لتبرير سياساته.
وبدأت وسائل الإعلام الحكومية، المعروفة بتماهيها مع خطاب السلطة، تعكس القلق العميق في الشارع، وتقر بأن “بعض المثل الثورية للنظام اهتزت”.
لم تتوقف الخسائر عند البعد النفسي أو الدعائي، إذ تشير تقارير اقتصادية إلى أن الاحتياطي الأجنبي الإيراني استُنزف إلى حد خطير، التضخم بلغ مستويات غير مسبوقة، والإنتاج الصناعي يشهد انكماشًا، فيما معدلات البطالة تتصاعد بلا توقف. فشل النظام في إدارة الحرب اقتصاديًا كما سياسيًا، جعل قطاعات واسعة من الشعب ترى أن المواجهة الأخيرة كانت بلا طائل سوى تكريس عزلة إيران واستنزاف ما تبقى من مقدراتها.
بعد الحرب، لجأ النظام إلى أسلوبه المألوف: القمع.. فشهدت المدن الإيرانية حملات اعتقال وتضييق في السجون، في محاولة لاحتواء السخط الشعبي المتصاعد. لكن هذه السياسة لم تعد فعّالة كما كانت، فالشعب بات أكثر وعيًا وتنظيمًا، والمعارضة – سواء في الداخل أو في الشتات – تمتلك اليوم أدوات إعلامية وتنظيمية متقدمة، تجعل من السيطرة التامة حلمًا مستحيلاً.
في هذا السياق، يُطرح برنامج “الحل الثالث” الذي تتبناه مريم رجوي والمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية كبديل واقعي للنظام الحالي.
يدعو البرنامج إلى دولة ديمقراطية علمانية تقوم على فصل الدين عن الدولة، وتكفل المساواة بين الجنسين، وحرية التعبير، وسيادة القانون.
هذا الطرح لا يقتصر على الشعار، بل يمثل مشروعًا سياسيًا مدروسًا وقابلًا للتنفيذ، يحظى بقبول شعبي واسع داخل إيران ودعم متزايد في المحافل الدولية. الفرصة الآن قائمة أكثر من أي وقت مضى.
ضعف النظام، وخسائره المتراكمة، وتآكل شرعيته داخليًا وخارجيًا، تفتح نافذة حقيقية لتغيير تاريخي في إيران. غير أن هذا التغيير لا يمكن أن يحدث تلقائيًا أو بانتظار سقوط النظام من تلقاء نفسه، بل يتطلب إرادة سياسية دولية واضحة، تنهي عهد المهادنة والتردد.
ينبغي للمجتمع الدولي، خاصة القوى الغربية، أن تتجاوز السياسات الرمادية التي اتبعتها لعقود. المطلوب ليس فقط فرض عقوبات على الحرس الثوري، بل دعم فعّال للمعارضة الإيرانية الديمقراطية، والضغط من أجل محاسبة النظام على جرائمه في الداخل والخارج، وقطع كل سبل شرعنته دوليًا. كما أن تأخر التغيير في إيران سيعني مزيدًا من زعزعة الاستقرار الإقليمي، سواء في العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان.
فالنظام الإيراني، حين يفقد السيطرة على الداخل، يميل إلى تصدير الأزمة للخارج عبر إشعال النزاعات وافتعال مواجهات. لذا فإن احتواء النظام داخليًا هو جزء من استقرار المنطقة بأكملها. خلاصة القول، إيران تقف اليوم أمام مفترق طرق: إما السقوط الحر لنظام استبدادي فقد كل أدوات بقائه، أو تحوّل منظم نحو نظام ديمقراطي مدني يعيد للشعب الإيراني كرامته، وللمنطقة توازنها.. الفرصة تاريخية، وعلى الجميع أن يدرك أن الانتظار لم يعد خيارًا.