الثورة – إيمان زرزور
في مشهد غير مألوف على مدار سنوات الحرب في سوريا، بدت مؤسسات الدولة السورية، ممثلة بوزارتي الداخلية والدفاع، أكثر تجاوباً مع مطالب الرأي العام وأسرع استجابةً في التعاطي مع انتهاكات جسيمة وثّقتها مقاطع مصوّرة في الساحل السوري ومحافظة السويداء.
فخلافًا لما اعتاده السوريون من إنكار منهجي لأي جرائم وانتهاكات ارتكبها نظام الأسد البائد، أظهرت السلطات الحالية موقفاً جديداً تمثل بالإقرار بالوقائع، وتبنّي خطاب واضح يتوعّد بالمحاسبة، ويؤكّد خضوع الجميع لسلطة القانون.
خلال أحداث الساحل السوري في شهر آذار المنصرم، أقرت السلطات في دمشق بوقوع انتهاكات في مناطق عدة في ريفي اللاذقية وطرطوس عقب هجمات فلول النظام ومانتج عنها من حملة عسكرية لمختلف التشكيلات والقوى، والتي كانت أول اختبار للحكومة السورية الجديدة، التي لم تتملص وتنكر الانتهاكات بل أقرت بها وشكلت لجنة مختصة للنظر والتحقيق.
في أحداث السويداء في تموز الجاري، سارعت وزارة الداخلية إلى إدانة المقاطع المتداولة التي توثّق تنفيذ إعدامات ميدانية بحق مدنيين، مؤكدة أنّ هذه الجرائم تمثل انتهاكاً خطيراً لأحكام القانون السوري والمواثيق الدولية، وأن الجهات المختصة باشرت تحقيقات عاجلة لتحديد هوية الجناة وتقديمهم إلى العدالة.
التصريح تضمّن لهجة صارمة تضع مبدأ عدم الإفلات من العقاب في صلب الاستجابة، وترسل رسالة واضحة بأن الدولة، في صورتها الجديدة، لا تتسامح مع هذه الجرائم.
في المقابل، أصدرت وزارة الدفاع بياناً تفصيلياً، تحدثت فيه عن متابعة مباشرة من الوزير اللواء المهندس مرهف أبو قصرة لتقارير الانتهاكات التي ارتكبتها جهات ترتدي الزي العسكري في مدينة السويداء، مشيرة إلى تشكيل لجنة تحقيق مختصة لتحديد تبعية المنفذين، والتحقق من خلفياتهم، والتأكيد على أن كل من يثبت تورطه، أياً كان انتماؤه، سيُحاسب وفق القانون العسكري والمدني.
تُظهر هذه الاستجابات تغيراً جوهرياً في سلوك الدولة تجاه الانتهاكات، قاطعاً مع إرث نظام الأسد، الذي لطالما واجه التقارير الحقوقية المحلية والدولية بالتجاهل أو الإنكار القاطع، وتبنّى سياسة الإفلات الدائم من المحاسبة، بل أحيانًا تغطية مرتكبي الجرائم وتشجيعهم على الاستمرار.
الاعتراف الرسمي بوقوع الانتهاكات، والبدء بإجراءات تحقيق ومساءلة علنية، لا يعدّ مجرد خطوة قانونية، بل يمثل تحولاً مهماً في العقلية المؤسسية للدولة، وهذا التطور، وإن جاء في سياق ضاغط ومشحون، يشكل بارقة أمل بالنسبة لكثير من السوريين ممن يترقبون تأسيس دولة العدالة والمحاسبة، ويمنحهم مؤشراً على إمكانية بناء منظومة أمنية ومؤسساتية خاضعة للقانون، لا فوقه.
في ظل الأحداث المأساوية التي شهدتها مناطق الساحل والسويداء، يبقى المعيار الأساسي للحكم على هذا التوجّه هو تنفيذ المحاسبة بشكل فعلي، وشفاف، وشامل، دون انتقائية أو استثناءات، لكن وبغض النظر عن النتائج النهائية، فإن اعتراف مؤسسات الدولة بالانتهاكات ونيتها التعامل معها بمسؤولية يُعدّ في حد ذاته تطوراً غير مسبوق يستحق الإشادة، ويفتح الباب أمام إمكانية تصحيح المسار، واستعادة ثقة المجتمع السوري بالدولة ومؤسساتها، بعد عقود من التعتيم والإنكار.