الثورة- منذر عيد:
لم تعد المعارك تُخاض فقط على الأرض، بل باتت تدار بشكل موازٍ على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تتحول الأخبار إلى سلاح ناعم يُستخدم لتوجيه الرأي العام، وبث الخوف، وخلق واقع بديل في أذهان المتابعين، فما نشهده اليوم لا يمثل فقط أزمة معلومات، بل تحولًا جذريًا في مفهوم الحرب الإعلامية.
المنصات الرقمية مثل إكس، فيسبوك، وتيك توك أصبحت خلال السنوات الماضية أدوات رئيسية في الصراع السوري، إلا أن وتيرة استخدام هذه المنصات في التضليل الإعلامي تصاعدت بشكل ملحوظ مؤخرًا، صورٌ وفيديوهات تُخرج من سياقها، أصوات تُركب، وأحداث تُختلق وتُسوّق وكأنها حقائق دامغة، هذا ليس عشوائيًا، بل يتم وفق آليات مدروسة، تقودها ما يُعرف بـ”الجيوش الإلكترونية” أو “الذباب الإلكتروني”، وهو مصطلح يُطلق على مجموعات منظمة من الحسابات الوهمية تُستخدم لنشر محتوى مضلل على نطاق واسع.
في منشور له بتاريخ 21 من الشهر الجاري، كشف وزير الإعلام حمزة المصطفى، أن نحو 300 ألف حساب نشط شارك في حملة منسقة عقب أحداث السويداء، مشيرًا إلى أن مصدر هذه الحسابات يعود إلى أربع دول رئيسية، الأمر الذي يكشف عن بُعد إقليمي ودولي في هذه العمليات، والحديث هنا ليس عن مجرد هواة أو مستخدمين عاديين، بل عن أجهزة تعمل بمنهجية دعائية محكمة.
والخطير في هذه الحرب الإعلامية أنها لا تهدف فقط إلى التأثير في مواقف الأفراد، بل إلى خلق انقسام وشرخ مجتمعي طويل الأمد، حين تنتشر شائعة ما بشكل واسع، فإن تكذيبها لاحقًا لا يُلغي تأثيرها، والدراسات النفسية والإعلامية تؤكد أن “الأثر الأول للمعلومة”، ولو كانت زائفة، يترسخ في العقل الجمعي بشكل يصعب تفكيكه.
منصات تحقق مثل “تأكّد” و”فارق” و”True Platform” تعمل على رصد وتفنيد هذا الكم الهائل من الأخبار الكاذبة، إلا أن التحدي يبدو أكبر من إمكانيات هذه المبادرات.
أحمد بريمو، مدير “تأكّد”، عبّر في تصريح صحفي سابق له بوضوح عن حجم هذه الموجة، قائلًا: إنهم لم يشهدوا مثل هذا “السيل من الأخبار المضللة” في أي من الأحداث السابقة، وأن الإشكالية الكبرى أن منصات التواصل لا تلعب دور الحكم في هذه المعركة، بل على العكس، تصميم خوارزمياتها يدفع نحو تعظيم المحتوى الذي يُثير الانفعال، حتى لو كان مضللًا، هذا يُحوّل المنصات إلى مسرّعات للشائعات، حيث تنتقل الأكاذيب أسرع من الحقائق، وتصل إلى جمهور أوسع بزمن قياسي.
وفي ظل غياب تشريعات فعالة أو رقابة رقمية حقيقية، يبدو أن ظاهرة التضليل الإعلامي لن تتراجع في المستقبل القريب، بل من المرجح أن تزداد تعقيدًا، مع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على إنتاج فيديوهات وصور مزيفة بدرجة يصعب كشفها، ولعل الخطر الأكبر يكمن في تآكل الثقة العامة بالإعلام، بحيث يصبح كل خبر محل شك، ويضيع المواطن بين الحقيقة والوهم، وفي هذه الحالة، يُصبح الجمهور فريسة سهلة لأي خطاب تعبوي أو دعائي، وهو ما يُهدد استقرار المجتمعات على المدى البعيد.
أمام هذا الواقع، لا يكمن الحل فقط في المنصات المتخصصة بالتحقق، بل في خلق ثقافة إعلامية جديدة، قوامها التشكيك الواعي، والتثبت قبل التفاعل أو النشر، فالمعركة الإعلامية ليست فقط بين أطراف النزاع، بل بين الحقيقة والزيف، بين وعي المجتمع وانتهاكات المضللين، وإذا كانت الجيوش الإلكترونية تقاتل بسلاح الشائعات، فإن الوعي النقدي هو خط الدفاع الأول للمجتمعات، مسؤولية هذه المعركة لا تقع على الدولة فقط، بل على كل فرد يستخدم شاشة هاتفه كنافذة على العالم.