ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحريرعلي قاسم:
ظل الصراع على هوية المنطقة جزءاً أساسياً من محاور ووقائع المجابهات التي شهدتها على مدى عقودها الماضية، سواء تلك التي كانت تستهدفها بشكل مباشر، أم التي جاءت عبر صيغ ومشاهدات مغرقة في مواربتها تحت عناوين كانت تتلون تبعا للظرف السائد، وأحياناً أخرى وفقاً للجبهات المفتوحة والأطراف المشاركة فيها.
واللافت أن أحداً لم يطرحها في كل المجابهات على أنها العنوان لأي صراع إلا في مراحل آنية وعابرة، وهذا يفسر جزئياً لماذا جاءت بالتورية السياسية غير المباشرة، وإن ظلت مصحوبة بكمٍّ من النفاق الذي وصل إلى حد الخلط بين الصراع ذاته والأجندات التي يحملها في كل حقبة، وتقدمت في أغلبها تحت عناوين مذهبية تارة.. وطائفية أو عرقية في مراحل أخرى، دون أن يكون الحامل للصراع في جوهره قادراً على تمثل جوانب الهوية، حتى إنه لم يتردد في اتخاذها منصة لتحوير الصراع وتغيير الاتجاه داخله، كلما سنحت الفرصة بذلك.
غير أن هذا النمط الذي ساد على مدى عقود خلت استحدث في جيوبه الهامشية عناوين مهدت في الشكل والمضمون لما نشهده حالياً من ناحية التعديل في الأولويات، حيث جاءت في مرحلة الثمانينات تحت عنوان التكتلات أسوة بالتكتلات العالمية، وكانت مواجهة الهوية أو تغيير حضورها بصفتها العربية الجامعة أحد مرتكزات التغيير الذاتي لها، التي تم إلباسها لبوس الإقليم أو الخصوصية الجغرافية المنعزلة، وانكشفت المحاولة على فراغ هائل من السذاجة السياسية، التي سرعان ما تلاشت وتم تجاوز مفرزاتها العملية، باستثناء مجلس التعاون الخليجي الذي أفرغ ما في جعبته من سهام في قصف ممنهج للهوية العربية وبُعدها القومي، وإن فقد وظيفته العملية في نهاية المطاف مع تسارع الأحداث في السنوات الاخيرة، رغم أنه كان الشكل الأول للاصطياد في شباك الهوية العربية.
وحين وصلت الأمور إلى المواجهة المفتوحة بين أنماط الوجود العربي وتجلياته في هويته الطبيعية، جاء القصف هذه المرة من داخل حامله الموضوعي ذاته، حين انقضّت على جملة من التوازنات في السياق العربي التي ظلت على مدى عقود طويلة قادرة على صد الهجمات المباشرة، وفي الوقت ذاته أبقت الهوية وصراعاتها في إطار التجاذبات الثنائية دون أن تسمح لها بالتمدد أبعد من ذلك، وسرعان ما كانت تنتهي بحكم التقادم والمتغيرات.
الهجوم المعاصر على الهوية ومكنوناتها الذاتية كان عبر تدمير مرتكزات وجودها في الحامل الثلاثي لها الذي جاء بصيغ مختلفة، كان الوجود السوري المصري الضامن لاستمراريتها، وإن تعرض لقرصنة مسبقة أخرجت العراق مبكراً منها بعد أن سبقتها مصر عبر كامب ديفيد وكان الاقتصاص منها لاحقاً بديلاً عن حالة الخيبة من فشل التكتلات الضيقة على الهوية العربية، ومحاولة تعويضها مؤقتاً بالحامل السعودي المفخخ، ثم مالبثت أن فجرتها الأحداث الأخيرة، لتعيد صياغتها عبر الجامعة التي تم مصادرتها من قبل مشيخات الخليج، وكان الهجوم في مرحلته الثانية مسبوقاً بتحييد مصر واستهداف سورية، بعد أن أبعدت العراق بالاحتلال الأميركي وصولاً إلى التعبير عن الرغبة في تسويق مفهوم الهوية العربية على مقاس المشيخات.
باسم الهوية العربية تم تدمير ليبيا، وباسم الهوية تم استهداف سورية.. والعدوان على اليمن.. وقبلهما العراق.. وبينهما كانت تونس، وتحت الهوية العربية يُراد أن تتشكل القوة العربية لحروب باتت تكلفتها أكبر بكثير من مغانمها، وهي تحاول اليوم أن تكون البديل الحقيقي لقوة المحور العربي داخل هذا الوجود قبل أن يتحول إلى واقعه المَرَضي والمتورم الحالي، عبر إصباغ الهوية العربية على ماتفعله المشيخات، ليكون غطاء يبرر ويسوّغ أفعالها ووجودها الوظيفي الذي انكشف على عوراته.
الخطير أن تكون منصة استهداف الهوية عبر الهوية ذاتها، وتسويق الحالة لتكون البديل العملي للعروبة، التي تتصدرها اليوم السعودية وقطر والإمارات، ومعها الأردن والمغرب، وباتت الملكيات العربية والإمارات تقود العمل العربي – غير القومي – وتريد أن تعبر عن هويته، وقد وصلت محاولاتها إلى خواتيمها في إطلاق القوة العربية المشتركة، لتكون الهوية المراد تعميمها في المنطقة وخارجها، بما تحمله من مخاطر ليس على الهوية فحسب، بل على الوجود القومي والعربي بالطبع، وبما تشكله من وقود لحروب بالوكالة عن أميركا وإسرائيل.
فحين تصبح الهوية العربية بمجسات خليجية، هناك ما يستدعي التوقف، بل التدقيق في الدلالات التي تحملها، وفي السياقات التي تنتجها، حيث المشهد لم يعد مجرد صراع على الدور والوظيفة، بل بات في لب المواجهة على الوجود، وخصوصاً حين يمتزج الصراع على الهوية بالمواجهة على الانتماء والموقع والدور والاتجاه والضفة ..!!!
a.ka667@yahoo.com