الثورة – رفاه الدروبي:
تعتبر البيئة الفراتية، خصوصاً في منطقة الفرات الأوسط، من أغنى البيئات حضارياً في الشرق القديم، إذ نشأت أولى المدن، وتطورت الكتابة والزراعة والعمارة فيها، وكانت ملتقى للحضارات السومرية والآشورية والآرامية، واحتضنت تراثاً مادياً ولا مادياً متنوعاً، من الأساطير والمعتقدات إلى الفنون الشعبية.
حول الذاكرة الفراتية وإحياء التاريخ المنسي أجرينا حواراً خاصاً مع مدير دائرة آثار دير الزور السابق الآثاري ياسر أحمد شوحان، لنناقش معه أسباب إجباره ترك الدائرة وقضايا الهوية الثقافية، التراث اللامادي، التنقيب الأثري، وتحديات إعادة الإعمار من ضفاف الفرات إلى أروقة المتاحف، ومن الحكاية الشعبية إلى التقنيات الحديثة، ليفتح لنا أبواب الذاكرة، ويشاركنا رؤيته حول مستقبل التراث في سوريا والمنطقة.
ترك العمل
بدأت قصة “الشوحان” بطريقة ما للابتعاد عن العمل الأثري، فيما كانت سنوات ما قبل الثورة السورية مليئة بالاحتقان والرفض الصامت، وتسلط الأجهزة الأمنية على سياسات الدولة بجميع مفاصلها أو تعيين مديرين للدوائر مرتبطين مباشرة معهم، ولم يكن الشوحان مُرضياً لعدم تبعيته لهم، والسبب حرص النظام البائد على استخدام بعض الكوادر العاملة لنقل كل ما يحدث في الجهات العامة، فتحولت دائرة آثار دير الزور إلى مزار لهم، فكانت النتيجة اعتقاله ثم سُجن ستة أشهر مع عاملين آخرين بداعي “الفساد” ووجهت تهماً صورية تعسفية لهم كتهريب آثار خارج البلاد بالتعاون مع جهات خارجية، وحرق المتحف وتلقي الرشوة، واختلاس أموال عامة وغيرها، وبعد أربع سنوات تمَّت تبرئته من جميع التهم، مع عبارة “الشك بالإهمال الوظيفي”، ورغم تقدمه بطلب للعودة للعمل سنة 2013، وكان رد “الأمن السياسي”، “عودتك للعمل مشروطة بالتعاون معنا” لكنَّه ذهب ولم يعد.
بدأ حديثه عن وضع الآثار السورية حالياً بأنَّها تعكس مزيجاً من الأمل والقلق، فبعد أكثر من 14 عاماً من الصراع لم تحظ بالرعاية والاهتمام، بل تصاعدت التعديات على المواقع الأثرية، فمثلاً في دورا أوروبوس آلاف الحفر الصغيرة الناتجة عن التنقيبات غير الشرعية، وتدمير العديد من المباني في المدينة كالأسواق القديمة العائدة لعام 1865، ومآذن المساجد التاريخية منها تكية الراوي، العمري، السرايا، ومبنى السرايا، والخانات القديمة، فيما عدا عن النهب والتهريب المتعرضة له المواقع الأثرية والمتاحف.
أمَّا على الصعيد الإداري فإنَّ إدارة ملف الآثار في سوريا يعاني من مركزية مفرطة، وضعف في التشريعات وإنفاذ القانون، ومن ناحية أخرى نقص حاد في التنسيق بين الجهات والمؤسسات، والموارد البشرية والمادية، ووصف تجربته في حفظ التراث الثقافي السوري، بأنَّه قضية وجود، وتعتبر أعمال التنقيب المنهجية الخطوة الأولى في كتابة التاريخ، وأنَّ التوثيق الأثري وعدٌ يقطعه الآثاريون للأجيال القادمة بأنَّ سوريا لاتزال قوية بإرثها وحضارتها.
المشاريع المنفذة
وعن أهمِّ المشاريع المنفذة من قبله، أشار إلى تزايد حالات الاعتداء على الآثار منذ عام 2011، إذ انبرى الكثير من الآثاريين للحظ إرثهم، وكان الشوحان واحداً منهم، فكانت الأعمال الأولى بالتطوع في توثيق الأضرار والانتهاكات على المواقع الأثرية، ثم ما لبثت أن ازدادت التعديات عليها مع مرور الوقت، وتقطعت السُبُل بهم للوصول إلى المواقع.
بعد ذلك وبجهود مدعومة من منظمة التحالف الدولي لحماية التراث، “ALIPH”، تمَّ توثيق أكثر من سبعة آلاف قطعة أثرية في شمال وشرق سوريا، كان الهدف من المشروع حصر القطع العائدة للبعثات الأثرية، وكانت عاملة في محافظتي الرقة والحسكة، ثم تلا ذلك العديد من المشاريع المتعلقة بالحفاظ على القطع الأثرية، ومنها مشروع توثيق لوحات الفسيفساء العائدة لمواقع أثرية مختلفة في محافظة الرقة، إذ وُثقت 217 لوحة فسيفساء تعود: للرصافة، تل حلاوة، عين العروس، حمام التركمان، تل البيعة.. وغيرها.
كما رافق ذلك أيضاً مشروع لتوثيق القطع الأثرية في منبج، إذ وُثقت 1200 قطعة مع تنفيذ أعمال الحفظ الوقائي لها، ثم مشروع متحف الرقة واستمر لمدة عام كامل، إذ تضمن توثيق القطع الأثرية وحفظها في المستودعات وأعمال الحفظ الوقائي لها، وذلك بعد أن كان تنظيم “داعش” مسيطراً عليه، إضافة إلى تجهيز المتحف بخزائن العرض المتحفية وإعادته بأسلوب مختلف تماماً عما كان قبل بداية الثورة السورية، إذ شملت المعروضات اللوحات الجصية، والدمى، والأواني الفخارية، والخزفية، وسُرُج الإنارة، والأدوات الطبية وغيرها، فيما لاقى افتتاح المتحف بعد سنوات من تجهيزه وإعادة تأهيله صدى واسعاً وأهمية استثنائية على الصعيد الثقافي المحلي، ولا بدَّ من الإشارة إلى أن المشروع كان بدعم من منظمة ALIPH أيضاً.
متحف دير الزور
راوياً الدور الحقيقي لمتحف دير الزور الوطني في حفظ الذاكرة الفراتية والخطوات الواجب اتخاذها لإعادة إحيائه وظيفياً وثقافياً، وبأنَّه يقدِّم تاريخ منطقة وادي الفرات والجزيرة السورية كإرث إنساني وطني واحد ومشترك منذ عام 1996، وذلك حتى فترة حلول عصابات الأسد المخلوع في مبنى المتحف حيث تمَّ تحويله إلى مكان لتخزين المسروقات من مدينة دير الزور كالأجهزة الكهربائية، والأثاث وغيرها، إضافة إلى تدمير المجسمات وخزائن العرض المتحفي وسرقة أثاثه، ولحسن الحظ فإن حفظ القطع الأثرية في مستودعات المتحف من ناحية، وإغلاقها بشكل محكم، ونقل آلاف القطع الأثرية جواً إلى دمشق جاء كمحاولة إسعافية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه خلال فترة محاصرة تنظيم “داعش” للمدينة، ونجحت المديرية العامة للآثار والمتاحف في الحفاظ على الآثار على قدر محاولاتها واستطاعتها، وخصَّ بالذكر الكادر العامل في دائرة آثار دير الزور لاستجابتهم الإنسانية والثقافية.
مُبيِّناً حاجة المتحف إلى الكثير من المشاريع لإعادته إلى ما كان عليه، بدءاً من العرض بما يتناسب مع التطور التقني، والأساليب السائدة في المتاحف العالمية، ويحتاج وقتاً طويلاً، ودراسات ترصد الاحتياج وتُعيد العرض، وتقوم بأعمال التوثيق والأرشفة في المستودعات، وإعادة القطع الأثرية المنقولة إلى دير الزور، على الرغم من إعداده دراسة تتضمن تقييم الأضرار الأولية للمتحف الوطني إلا أنَّه يعترف بعدم كفايتها، وتحتاج للكثير من التسهيلات والعمل الإضافي، داعياً إلى ضرورة إدماج المتحف في العملية التعليمية، وتنظيم الفعاليات الثقافية، والمجتمعية داخله ريثما تتمُّ أعمال الصيانة كي يبقى فضاءً للحوار والتعلم لا مجرد مكان للزيارة العابرة.
تقنية الماء الذكية
كما انتقل للحديث عن تقنية المياه الذكية smart water ومتى يتمُّ استخدامها، إذ بيَّن أنَّها تقنية حديثة تهدف إلى حماية القطع الأثرية من السرقة، وخطوة أولية لمنع دور العرض والمزادات من بيع القطع الأثرية المُنفذ عليها التقنية ذاتها، وتتمُّ برش القطعة بمادة شفافة مشابهة للماء، ولا يظهر عليها أي تغيير، وعند الكشف عليها بعد تعرضها للأشعة فوق البنفسجية تظهر علامات الرش. وتنفيذ التقنية على جميع القطع الأثرية، والبالغ عددها أكثر من ١٢٠٠٠ قطعة أثرية في الرقة ومنبج والحسكة، ونفّذ المشروع بدعم من وزارة الخارجية الأميركية من خلال المنحة المقدمة لحماية القطع الأثرية، بمشاركة منظمة جذور التراث، ولحسن الحظ فإن تنفيذ التقنية ساعدت- ربما- بطريقة ما على منع تهريب القطع الأثرية في منبج، وعادت مؤخراً إلى متحف حلب بعد فقدانها لمدة سبعة أشهر.منتقلاً للحديث عن آلية رصد الانتهاكات على المواقع الأثرية كونها تعرضت لأشكال عديدة من الانتهاكات، والاعتداء بالتجريف، زراعة، حفريات سرية، أعمال عسكرية، أبنية على سطوح التلال وغيرها ولجأت العديد من الجهات إلى رصد الاعتداءات، إلا أن آخرها المشروع المُنفَّذ من قبل الشوحان مع مجموعة من الآثاريين وكان يهدف إلى توثيق الاعتداءات عليها، ومقارنة أي تغيير في المستقبل، وذلك لفهم أوضح حول طبيعة تعامل المجتمع المحلي مع المواقع الأثرية.
إذ تمَّ رصد /١٦٨/ موقعاً أثرياً في حوض نهر الخابور في كلٍّ من الحسكة ودير الزور، وساعد المشروع ذاته بعض الآثاريين من هم أوسع لطبيعة التغييرات الحاصلة على المواقع الأثرية.