“الحرّاني”.. رواية تاريخية أحيت مدناً غيبتها السرديات

الثورة – أحمد صلال- باريس:

صدر حديثاً عن دار رياض نجيب الريس، العمل الروائي الأول للكاتب السوري خلف علي الخلف، بعنوان “الحرّاني”، يقدّم المؤلف عبر هذا العمل رواية تاريخية واسعة الأفق، تزاوج بين الدقة البحثية والخيال الروائي، وتعيد الاعتبار لمدينة حرّان ودورها في الفلسفة والعلوم في القرن التاسع الميلادي، وللجماعة التي عُرفت في المصادر العربية بالصابئة الحرّانيين.

تبدأ الرواية بزيارة الخليفة المأمون إلى مدينة حرّان في طريق حملته الأخيرة على الروم، إذ توفي قبل أن تبدأ، ودُفن في طرسوس، في تركيا الحالية، اللقاء الذي جمع بين المأمون وأعيان الحرّانيين، ورئيسهم قرّة بن مروان، شكّل لحظة مفصلية في تاريخ الجماعة الحرّانية التي كانت على ملة الأحناف، إذ يجد الحرّانيون أنفسهم مضطرين لإثبات “توحيدهم” وأنهم ليسوا وثنيين ولا عبدة نجوم كما يتهمهم جيرانهم السريان، بل أحناف يتبعون “ملة إبراهيم”، من هذه اللحظة يتسع السرد ليكشف عن دور هذه الجماعة الصغيرة في لحظة وجودية في قلب الخلافة العباسية، وعن جدل ديني وفلسفي يعكس تعددية المواقف داخلها.

الرواية تتناول شخصية ثابت بن قُرّة الحرّاني، الفيلسوف والعالم والفلكي والموسيقي كذلك، الذي يمثل رمزاً لجهد المدينة في التوفيق بين العلم والعقيدة الحرّانية، قبل رحيله إلى الرقة ثم بغداد، لكنها لا تقف عند الأفراد وحدهم، بل ترسم لوحة كاملة عن أبناء حرّان، وتكشف أثرهم التأسيسي في الفلسفة اليونانية. فالرواية تقلب السردية الشائعة، لتظهر أن حرّان لم تكن متلقية فقط، بل مصدر أثّر في فيثاغورس وأفلوطين وغيرهما من فلاسفة اليونان، كما تعرض لدورها لاحقاً في ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى العربية، إذ يكشف المؤلف عن قراءة جديدة مدعومة بالمصادر ترى أن الترجمة تمت مباشرة من اليونانية إلى العربية من دون المرور بالسريانية كما هو شائع.

تُظهر الرواية الدور الذي لعبته الجماعة الحرّانية المستعربة في الثقافة العربية، فآل قُرّة خرج منهم أجيال من الفلاسفة والأطباء وعلماء الفلك وحافظوا على عقيدتهم على مدار عقود، وآل هلال الذين أسلم معظمهم خرج منهم فقهاء اللغة العربية أبرزهم أبو إسحاق بن هلال الصابي، فيما آل حيان خرج منهم اثنان من العلماء الذين مازال العالم ينظر إليهم بتقدير، جابر بن حيان أبو الكيمياء، ومحمد بن سنان بن حيّان البتاني عالم الفلك الشهير.يتنقّل النص بين مدن وحواضر كبرى، حرّان حاضنة العلم والفلسفة، الرقة التي كانت عاصمة ثانية للحرّانيين وللدولة العباسية، وقرطبة عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس التي كانت في أوج ازدهارها الفكري واضطرابها السياسي، غرناطة، ملقا، الإسكندرية التي تستكشف الرواية فيها واحدة من أشد الدول غموضاً في العصر العباسي “دولة الأندلسيين في الإسكندرية”، أثينا في أشد عصورها ذبولاً، القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، كريت التي أقام العرب الأندلسيون فيها في تلك الفترة إمارة مستقلة “إمارة إقريطش” دامت قرناً ونصف قرن تقريباً، وصقلية حيث أقام فيثاغورس مدرسته قبل الميلاد.

وفي هذا الترحال لشخوص الرواية يقدم النص بانوراما عن العالم آنذاك وممالكه، الخلافة العباسية والإمبراطورية البيزنطية والدولة الأموية في الأندلس، ويُلقي الضوء على الواقع الفكري في تلك الممالك، وتداخلات السياسة بالفلسفة، والعلوم بالعقائد، وتبرز الرواية تفاصيل دقيقة عن الحياة اليومية، الأسواق، المآكل، العمارة، الأزياء، الموسيقا، والطقوس الدينية، ما يمنحها بعداً توثيقياً حيّاً للقرن التاسع الميلادي وأنماط العيش والعمران.

يتبرز الرواية فترة من أشد فترات الحضارة العربية إشراقاً، وتستكشف التسامح الديني الذي كان قائماً، إذ ساهم في “دار الحكمة” مركز الإشعاع العباسي، علماء وفلاسفة من شتى الأديان والطوائف، مسلمون ومسيحيون ويهود وحرّانيون أحناف صابئة.كما تتقصى الرواية العقيدة الحرّانية وتبرز طقوسها وشرائعها وعباداتها، وهذا يقدم لأول مرة تعريفاً حياتياً للحنيفية التي ينص الإسلام على أنه انحدر منها، ويبرز العمل كذلك علاقة المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى والتسامح الذي كان سائداً، فالرواية تقدم أحد أبرز البطاركة المسيحيين اليعاقبة المؤرخ دينيسيوس التلمحري وعلاقته بالمأمون والمعتصم وفق أسانيد تاريخية.

في قراءاتهم المبكرة للرواية، قال الناقد والروائي السعودي حامد بن عقل: “الحرّاني رواية كتبت بجهد بحثي حقيقي وجاد، وتسد فراغاً في المكتبة العربية، وهي إلى ذلك رحلة سردية ممتعة وعميقة”.أما الشاعر والروائي السوري عيسى الشيخ حسن فقال: “عمل سردي توثيقي، يعيد قراءة جزء مهمّ من تاريخ شعب مسالم محبّ للعلوم والمعارف والفنون، ينفض الخلف الغبار عن فترة تاريخية مهملة في قالب سرديّ جادّ شائق، الحرّاني عمل له ما بعده”.

بدوره كتب المترجم المصري عن اليونانية خالد رؤوف: “من أمتع وأحلى ما قرأت من سنوات، جهد بحثي عظيم وسرد روائي سلس ودسم، ويثير في نفس القارئ تساؤلات كثيرة لا تتركه بعد القراءة، وهو المبتغى من أي عمل يلقي بالكرة ساخنة في ملعب المتلقي فيربك أفكاره وثوابته، كعادة خلف لا يركن إلى السهل بل يضرب كل أعشاش الدبابير دفعة واحدة دون أن يشعرك أنه يفعل ما يستحي أو يخشاه الكثيرون ويصعب عليهم، رواية فارقة وأتوقع أنها ستلقى ما تستحقه”.

بهذا العمل، يفتتح خلف علي الخلف مشروعه الروائي التاريخي، مؤكداً أن الأدب قادر على إعادة الحياة إلى مدن وأفكار ووقائع غيّبتها السرديات، وعلى مساءلة الماضي لفهم الحاضر وصراعاته، وقد ذُيّلت الرواية بأكثر من ثلاثمئة مرجع عربي وإنكليزي ويوناني وسرياني.

المؤلف خلف علي الخلف من مواليد الرقة في الجزيرة الفراتية عام 1969، وتنحدر عائلته من حرّان، يقيم اليوم في مسقط ويحمل الجنسية السويدية، عُرف منذ التسعينيات كشاعر وكاتب مسرحي وصحفي وباحث، وله تسعة دواوين شعرية وثلاث مسرحيات مونودرامية، أبرزها “گلگامش بحذاء رياضي” التي حازت جائزة الفجيرة الدولية للمونودراما.

كما أصدر كتباً ودراسات بحثية بالعربية والإنكليزية، منها مؤلفه المشترك مع قصي مسلط الهويدي “الحرانيون السومريون: في أصول ومعتقدات العشائر الزراعية في الجزيرة والفرات”.. تُرجمت أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والسويدية والإسبانية والفرنسية.

آخر الأخبار
خطوات صغيرة وأثر كبير.. أطفال المزة  ينشرون ثقافة النظافة محافظ حماة يفتتح "المضافة العربية" لتعزيز التواصل مع شيوخ القبائل   " التعاون الخليجي" يجدد إدانته للعدوان الإسرائيلي على الأراضي السورية  البرلمان الأوروبي يدين  منع "إسرائيل " المساعدات عن غزة ويدعو لفتح المعابر  تفاقم أزمة المواصلات في ريف القرداحة  منحة نفطية سعودية لسوريا… خطوة لتعزيز الاقتصاد والعلاقات الثنائية  انطلاقة جديدة لاتحاد المبارزة  نتائج جيدة لطاولتنا عربياً  اتحاد الطائرة يستكمل منافسات الدوري التصنيفي الذكاء الاصطناعي يصدم ريال مدريد وبرشلونة مفاجأة ألكاراز.. تسريحة شعر خارجة عن المألوف الريال يواصل الغياب عن حفل (الكرة الذهبية) "عبد المولى" ينهي مهمته كمنسق أممي في سوريا حاملاً الأمل والتقدير للسوريين  المندوب الدائم لسوريا يسلم أوراق اعتماده إلى الأمين العام للأمم المتحدة  الرئيس الشرع يلتقي وفد المجلس السوري الأميركي   2.5 مليون دولار لدعم مراكز الرعاية  من مجموعة الحبتور   السعودية تمنح سوريا 1.65 مليون برميل دعماً لقطاع الطاقة وإعادة الإعمار  حملة “دير العز”.. مبادرة لإعادة صياغة المشهد التنموي في دير الزور إقبال كبير في طرطوس على حملة للتبرع بالدم  الشيباني: سوريا تدعم مبادرات السلام والاستقرار الإقليمي والدولي