الثورة – سعاد زاهر:
عندما كتب نيكوس كازانتزاكيس روايته الشهيرة “الإخوة الأعداء” في منتصف القرن العشرين، كان يعي أنه لا يسجّل مجرد حكاية عن حرب أهلية في قرية يونانية صغيرة، بل يخطّ نصاً كونياً يتجاوز الزمان والمكان.
القرية اليونانية كاستللوس-حيث يدور الصراع بين الشيوعيين والملكيين بعد الحرب العالمية الثانية- تتحول في الرواية إلى مسرح مصغّر للبشرية، إذ الأخ يصبح عدواً، والجيران يتحوّلون إلى خصوم دمويين، والقيم الأخلاقية تنهار أمام غريزة البقاء وفتنة السلطة.
سرّ خلود الرواية يكمن في هذا الانتقال من المحلي إلى الكوني، فهي تسرد وقائع صراع سياسي محدد، لكنها في العمق تقدّم أسطورة فلسفية عن هشاشة الروابط الإنسانية حين تعصف بها العواصف الأيديولوجية.
لقد أدرك كازانتزاكيس أن الحرب الأهلية ليست فقط حدثاً تاريخياً، بل تجربة وجودية تمتحن الإنسان في جوهره، هل يبقى الأخ للآخر حين تنقلب الولاءات؟ أم إن الأخوة مجرّد قشرة رقيقة تذوب عند أول امتحان قاسٍ؟، وهنا تتجلى قيمة الرواية، فهي لا تُقرأ فقط كأثر أدبي يوناني، بل كعمل فلسفي يلامس أسئلة المصير الإنساني.
حين يتحول الأخ إلى عدو
العنوان نفسه “الإخوة الأعداء” يضعنا أمام مفارقة فلسفية، كيف يمكن لرباط الإخوّة، الذي يُفترض أنه أسمى أشكال القربى، أن يتحوّل إلى عداوة دامية..؟، هذا السؤال يكشف عن تناقض أساسي في طبيعة الإنسان، إن الأخوّة ليست ضمانة للسلام، بل قد تكون الأرض الأكثر خصوبة لنموّ الحقد حين تتصادم المصالح، ويغدو الصراع مأساوياً لأنه يهدم أكثر العلاقات أصالة.
من منظور هيغلي، يمكن قراءة هذا التحول كجدلية بين الوعي بالذات، وبالآخر، إذ لا يتحقق وعي الإنسان إلا عبر صراع، حتى لو كان هذا الآخر شقيقه.
أما من زاوية وجودية (كفكر سارتر أو كامو)، فالمأساة تكمن في عبثية هذا الصراع، الأخ الذي كان سنداً يصبح عبئاً، والعداوة تولد في فراغ القيم الكبرى.
الانهيار الأخلاقي وصراع الإنسان مع ذاته
في الرواية، يغدو العنف اللغة الوحيدة حين تفقد الكلمات معناها، لا أحد يصغي إلى الآخر، هنا يطرح كازانتزاكيس سؤالاً أخلاقياً… هل يصبح العنف مشروعاً حين يكون من أجل الوطن؟.. أم أنه مجرّد قناع يبرّر وحشية الإنسان؟ العنف في “الإخوة الأعداء” ليس وسيلة دفاعية بل يتحول إلى نظام حياة، إنه قانون الغاب الجديد، إذ لا مكان للضعف أو التسامح.
الفلاسفة مثل فالتر بنيامين أو حنّة أرندت ناقشوا معنى العنف، الأول رآه “قوة تأسيسية للقانون”، والثانية ميّزت بين العنف والسلطة الحقيقية في الرواية، يتضح أن العنف لا يخلق سلطة، بل يدمرها، لأنه يزرع بذور عداوة لا تنتهي.
شخصية القسيس “ياناروس” تمثل بؤرة فلسفية في الرواية، رجل دين يجد نفسه في قلب الانقسام، ممزقاً بين وصايا الإنجيل وصوت السلاح.. هذا الصراع يعكس إشكالية أوسع، دور الدين في زمن الفتنة هل يكون الدين ملاذاً يوحّد، أم يتحوّل إلى أداة يبرّر بها كل طرف عنفه؟.
كازانتزاكيس، الذي عاش حياته في شدّ وجذب مع الكنيسة، يجعل من القس رمزاً للإنسان الباحث عن خلاص في عالم فقد البوصلة.
نص يتجاوز الزمان والمكان
الرواية تكشف عن مأزق الحرية، هل الحرية قرار فردي مطلق، أم إنها محكومة بسطوة الجماعة؟ الشخصيات تتأرجح بين إرادتها الفردية وخضوعها لشعارات الحزب أو الجيش.. وهنا يظهر سؤال فلسفي، هل يملك الإنسان أن يقول “لا” للجماعة؟ كازانتزاكيس، المتأثر بفكر نيتشه، يلمّح إلى أن الحرية لا تُمارَس إلا عبر المخاطرة، من يختار الاستقلالية يعرّض نفسه للعزلة وربما الموت، الحرية ليست نعمة مجانية، بل عبء يحتاج شجاعة.
الأرض في الرواية ليست مجرد مكان، إنها الذاكرة الحيّة، كل طرف يرى نفسه الوريث الشرعي لها، هنا تتجاوز الرواية واقعها لتصبح درساً فلسفياً في معنى الانتماء، هل الأرض ملكية مادية، أم إنها هوية؟ وعندما تتحول الأرض إلى موضوع صراع، فإنها تفقد كونها بيتاً مشتركاً وتصبح حدوداً تُرسم بالدم.
ملحمة وجودية
أسلوب كازانتزاكيس يتراوح بين السرد الواقعي والرمزية الملحمية، بحيث تتحوّل الشخصيات إلى نماذج بشرية عامة، الصراع ليس مجرد حدث في قرية، بل هو صورة مصغرة للبشرية.
بذلك يصبح النص أقرب إلى أسطورة حديثة، إذ الحاضر يعيد إنتاج الأسئلة القديمة عن الخير والشر، الحرية والعبودية، الأخوة والعداوة.
“الإخوة الأعداء” تشبه في بنيتها المأساوية بعض أعمال دوستويفسكي مثل “الإخوة كارامازوف”، فالصراع بين الإخوة يكشف أزمة روحية وأخلاقية كبرى، كما تذكّر بأعمال غابرييل غارسيا ماركيز في تصوير القرية كعالم مصغّر يحوي كل تناقضات البشرية، لكن كازانتزاكيس يختلف بأنه يمزج الملحمية بالوجودية، محوّلاً الصراع السياسي إلى سؤال فلسفي عن معنى الإنسانية نفسها.. وهذا ما يجعل الرواية قريبة من القرّاء في كل مكان، لأنها لا تتعلق باليونان وحدها، بل بكل مجتمع عاش انقساماً داخلياً.
في عالم اليوم، إذ تتصاعد الانقسامات تأتي “الإخوة الأعداء” كتحذير دائم، أن يتحول الأخ إلى عدو ليس احتمالاً بعيداً، بل واقعاً يمكن أن يتكرر في كل زمان.
لقد أدرك كازانتزاكيس أن مأساة الإنسان لا تكمن في موت جسده، بل في موت علاقته بالآخر، لهذا، ستبقى “الإخوة الأعداء” رواية تُذكّرنا أن العدو الأقسى ليس الغريب، بل القريب الذي فقدنا القدرة على أن نراه أخاً.