الثورة: مها دياب:
في خضم الحروب والأزمات، تتجه الأنظار غالباً نحو إعادة إعمار المباني والجسور والمرافق، بينما يغيب عن الكثيرين أن الإنسان نفسه هو الجسر الحقيقي لأي نهضة مستدامة.
فبناء الإنسان ليس ترفاً فكرياً أو شعاراً إنشائياً، بل هو المشروع الوطني الأهم، والشرط الأساسي لأي إعادة إعمار ناجحة، هو من يدير المؤسسات، ويصون القيم، ويعيد إنتاج الحياة من تحت الركام.
إن إعادة تأهيل الإنسان نفسياً وفكرياً واجتماعياً، تعني استعادة قدرته على العيش بكرامة، والمشاركة الفاعلة في بناء مستقبل أفضل.
هذا المشروع يعد مسؤولية جماعية، تبدأ من الأسرة، وتصل إلى السياسات العامة.
وفي الحالة السورية، يصبح الحديث عن بناء الإنسان أكثرإلحاحاً، لأن الحرب لم تدمر فقط الحجر، بل أصابت الروح، وخلخلت البنية النفسية والاجتماعية، وخلقت أجيالاً تائهة بين الألم والضياع.
من هنا، تنبع أهمية الاشارة إلى هكذا مواضيع والتي نستعرض من خلال بعضها أبرز محاور إعادة بناء الإنسان السوري، كما طرحها الباحث السياسي أحمد مرعي .
بناء متوازن
قال أحمد مرعي :إن نجاح أي مشروع وطني يبدأ من الإنسان، لأنه هو من يصنع الفرق.
وأن إعادة تأهيل السوري نفسياً واجتماعياً وفكرياً هي ضرورة لا يمكن تجاوزها، وليست خياراً مؤجلاً.
فالمواطن الذي عاش الصدمات يحتاج إلى دعم نفسي يعيد له توازنه، ويمنحه القدرة على التغيير والتطور.
وبيّن أن بناء الشخصية السورية المتوازنة يتطلب تعزيز التفكير النقدي والتحليلي، بدلاً من التلقين والتلقي، سواء على مستوى المرسل أو المستقبل.
كما شدد على أهمية إعادة بناء الثقة بين أفراد المجتمع، وتعزيز قيم المواطنة، والتمسك بالهوية السورية الجامعة، بعيداً عن الانتماءات المناطقية والعشائرية.
الإنسان ركيزة وطنية
وأكد أن النظرة التقليدية للإنسان مجرد رقم في الإحصاءات أو كمواطن سلبي يجب أن تتغير جذرياً.
لأنه الركيزة الأساسية لأي مجتمع، ويجب أن يشعر بأهميته، ويؤمن بقدرته على التأثير، ويدافع عن حقوقه، ويقوم بواجباته.
وأوضح أن هذا التحول في مفهوم الإنسان ليس ابتكاراً جديداً، بل هو العودة إلى الحالة الطبيعية التي يجب أن تسود في أي مجتمع سليم.
وعندما يدرك المواطن السوري أهمية صوته، حتى في الانتخابات، ويشعر بأنه شريك حقيقي في الوطن، نكون قد اقتربنا من الصورة التي يجب أن تكون عليها سوريا المستقبل.
لا إعمار بلا إنسان
وشدد مرعي على أن عمليتي بناء الإنسان وبناء البنية التحتية متلازمتان، ولا يمكن الفصل بينهما، فبناء الجسور والمدارس والمستشفيات يجب أن يكون من أجل الصالح العام، وليس لمصالح شخصية، لأن ذلك يعزز ثقة المجتمع بالحكومة، ويشعر المواطن بأن هذه المنشآت ملك له، فليحافظ عليها ويشارك في تطويرها.
وبين أن إعادة بناء البنية التحتية تخلق بيئة آمنة تدعم الاستقرارالنفسي، وتوفر أدوات للتعلم والعمل.
لكن أي إعمار مادي من دون إعمار إنساني سيبقى هشاً، وقابلاً للانهيار، لأنه لن يُدار بأيدي مؤهلة وواعية.
التعليم الممزق يخلق أجيالاً ضائعة
وأوضح أن انهيار البنية التحتية التعليمية، وتدمير آلاف المدارس، وهجرة الكفاءات من معلمين وأكاديميين، شكّل نزيفاً خطيراً في المجتمع السوري.
والأخطر، ، كان تسييس التعليم من النظام البائد خلال الحرب، وتحويل المناهج إلى أدوات لتكريس الانقسام، وخلق ولاءات غير صحيحة.
وبيّن أن هذا الواقع أدى إلى حرمان ملايين الأطفال من سنوات الدراسة، مما خلق جيلاً منخفض التعليم والوعي، وهو ما يشكل تهديداً حقيقياً لأي مستقبل مستقر.
فالتعليم لم يعد مجرد وسيلة للمعرفة، بل أصبح أداة لبناء أو هدم المجتمعات.
أسلوب التعليم
أكد أحمد مرعي أن المشكلة لا تكمن فقط في المناهج التعليمية، بل في الطريقة التي تقدم بها، والأشخاص القائمين عليها.
فبدلاً من أن تكون المناهج وسيلة لحل الأزمات، أصبحت تولدها، لأنها لا تزال تركز على الحفظ والتلقين، وتغيب عنها ثقافة الحوار، وقبول الآخر، وحقوق الإنسان.
وشدد على أن هذه المناهج لا تعالج آثار الحرب النفسية على الطفل، ولا تقدّم له أدوات للتعبير عنها، مما يجعلها غير قادرة على الاستجابة لتحديات الواقع السوري الحالي،فالتعليم يجب أن يكون مساحة للشفاء، لا لتكريس الألم.
بناء جديد
وأكد على أن إعادة بناء الإنسان السوري ليست مهمة مستحيلة، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية، ورؤية تربوية، وجهد مجتمعي متكامل.
فالحلول تبدأ من إدراج الدعم النفسي في المدارس والمناهج، وتدريب المعلمين على أساليب التفكير النقدي والحوار، وإعادة صياغة المناهج لتكون أكثر ارتباطاً بالواقع السوري، وتعزيز قيم المواطنة والهوية الجامعة في كلّ مادة تعليمية، وإشراك المجتمع المحلي في صياغة السياسات التعليمية.
فسوريا لا تُبنى بالحجر فقط، بل بالإنسان الذي يحمل الحلم، ويصونه، ويعيد إنتاجه.
وكل جسر يبنى، وكل مدرسة ترمم، يجب أن تكون امتداداً لجسر داخل الإنسان نفسه، يعبر به من الألم إلى الأمل.
الإعلام شريك في بناء الإنسان
وأوضح مرعي أن الإعلام يعد شريك أساسي في عملية بناء الإنسان، فالإعلام الواعي يساهم في تشكيل الوعي الجمعي، ويعيد توجيه البوصلة نحو القيم الوطنية الجامعة، ويكشف التحديات دون تهويل، ويطرح الحلول دون تزييف.
والإعلام في سوريا اليوم مطالب بأن يتجاوز الخطاب التقليدي، وأن يتحول إلى منصة للحوار، ومجال لتبادل الأفكار، ومصدر لإعادة الثقة بين المواطن والمؤسسات.
وعندما يكون الإعلام نزيهاً ومسؤولاً، فإنه يعزز الانتماء، ويحفّز المشاركة، ويمنح الإنسان السوري مساحة للتعبير عن ذاته، بعيداً عن الخوف أو التهميش.
الإعلام هو صوت الإنسان، وإذا صمت أو انحرف، ضاعت الرسالة، وتشوّهت الصورة، وتراجع الوعي.
نحو أفق جديد
وختم مرعي كلامه أن بناء الإنسان السوري يبدأ من الاعتراف بما مر به، ومن الإيمان بقدرته على النهوض.
لأنه لا يمكن فصل الألم عن الأمل، ولا يمكن تجاوز الماضي دون فهمه.
ولكن ما يمكن فعله هو تحويل التجربة إلى قوة، والصدمة إلى دافع، والانكسار إلى بداية جديدة.
ومجتمع يعاد ترميمه من الداخل، من الذاكرة، من المدرسة، من الإعلام، من كل مساحة تتيح للفرد أن يرى نفسه بوضوح، ويؤمن في جوهره بوطنه.
فعندما يصبح الإنسان هو الأولوية، تصبح كل المشاريع الأخرى ممكنة، وتتحول إعادة الإعمار من عملية هندسية إلى نهضة إنسانية شاملة.
هذا هو الطريق، وهذه هي البداية، وكل خطوة فيه هي إعلان بأن سوريا لا تزال قادرة على الحياة، وقادرة على أن تكتب مستقبلها بيد أبنائه.