الثورة – جهاد اصطيف:
منذ مطلع شهر تموز الماضي وحتى منتصف أيلول 2025، لم تهدأ شوارع مدينة حلب من الحملات المرورية المكثفة التي نفذها فرع المرور في المحافظة، والتي طالت مختلف أشكال المخالفات المتعلقة بالدراجات النارية والسيارات والبسطات وإشغالات الأرصفة.
الإحصاءات الرسمية تكشف أن هذه الحملات أسفرت عن حجز 1117 دراجة نارية مخالفة، وتسجيل 9541 مخالفة مرورية متنوعة، إضافة إلى مصادرة 239 بسطة متنقلة مخالفة، وحجز 903 سيارات، أرقام كبيرة أثارت جدلاً واسعاً بين الحلبيين، بين من يراها خطوة ضرورية لإعادة النظام إلى الشوارع المزدحمة، ومن يعتبرها قاسية على شرائح اجتماعية تعاني أصلاً من ضغوط معيشية خانقة.
خلفيات أمنية ومرورية
لا تأتي هذه الحملات من فراغ، بل هي، كما يؤكد بيان فرع المرور، استجابة لموجة من السرقات التي ارتكبت باستخدام الدراجات النارية خلال الأشهر السابقة، فضلاً عن ارتفاع معدل الحوادث التي أودت بحياة أو ألحقت الأذى بعشرات المواطنين. تتهم الدراجات النارية بأنها الأداة الأكثر استخداماً في جرائم سرقة الحقائب والسطو السريع، بحكم خفتها وسهولة تنقلها في الأزقة والشوارع الضيقة، كما أن استخدامها العشوائي من دون خوذ أو لوحات نظامية أو تراخيص، جعلها عبئاً على المشهد المروري في مدينة تعاني أصلاً من ازدحام خانق، نتيجة تضاعف أعداد السيارات خلال الفترة الأخيرة.من جهة أخرى، فإن إشغال الأرصفة من قبل البسطات شكل معضلة يومية للمشاة، حيث يجد المواطن نفسه مضطراً للسير على الطريق المخصص للسيارات، معرضاً نفسه لخطر الدهس، ولذلك، كان من الطبيعي- وفق الجهات الرسمية- أن يتخذ قرار حاسم لإزالة هذه المظاهر.
ارتياح حذر وانتقادات متصاعدة
كثير من الحلبيين عبروا عن ارتياحهم لهذه الحملات، يوضح “أحمد. د” 50 عاماً، وهو موظف حكومي يسكن حي الأعظمية خلال حديثه لـ “الثورة” أنه منذ بداية الحملة خفّت الفوضى في الشوارع، ولم نعد نرى الدراجات تتسابق بجنون بين السيارات أو تقطع الإشارات الحمراء بكثرة، كذلك فإن حالات السرقة عبر الدراجات انخفضت بشكل ملحوظ، و هذا ما كنا نحتاجه منذ سنوات. وترى “قطفة. ع” معلمة مدرسة، أن الحملات منحتها شعوراً بالأمان أثناء تنقلها سيراً على الأقدام، كانت تضطر دائماً لمراقبة حقيبتها خوفاً من السرقة، الآن تشعر أن الشارع أكثر أماناً، والأرصفة بدأت تعود للمشاة ولو جزئياً. في المقابل، يرى آخرون أن هذه الإجراءات حملت أثماناً باهظة على الفقراء، “محمد. أ” 27 عاماً، شاب يعمل في توصيل الطلبات، يشير خلال حديثه لـ”الثورة” إلى أن الدراجة هي وسيلة رزقه الوحيدة، حين صودرت، وجد نفسه بلا عمل، ويضيف: صحيح أن هناك مخالفات، لكن كان بالإمكان منحنا مهلة أو تسهيلات لترخيص الدراجات بدل مصادرتها فوراً. أما “طاهر. ف” 25 عاماً، صاحب بسطة صغيرة لبيع الخضار في سوق باب الجنان، فيقول: إن البسطة هي مورد رزقي لأعيل الأهل، حين صودرت لم يعطونا بديلاً، نعم الأرصفة ليست ملكاً لنا، لكن ماذا نفعل إذا لم تتوفر أماكن بديلة نسترزق منها؟.
انعكاسات ولكن!
بالطبع من أبرز مخرجات هذه الحملات، أنها فتحت نقاشاً أوسع حول التوازن بين تطبيق القانون وحماية مصادر عيش الناس، فعلى الصعيد الاقتصادي هناك الكثير من العائلات تعتمد على الدراجات النارية كوسيلة تنقل زهيدة الثمن، مقارنة بالسيارات أو أجور النقل العامة، ومصادرتها تعني زيادة أعباء المعيشة، كذلك فإن إزالة البسطات حرمت مئات الأسر من دخلها اليومي البسيط. وعلى الصعيد الاجتماعي، أوجدت الحملات حالة من التوتر بين بعض المواطنين والجهات المعنية، انعكست في شكاوى متكررة على وسائل التواصل الاجتماعي، البعض يرى أن التشدد المفرط قد يولد احتقاناً، في وقت تحتاج فيه المدينة إلى إجراءات أكثر مرونة.
بين القانون والواقع
متابعون يشيرون إلى أن هذه الحملات تحقق نتائج ملموسة على صعيد خفض الحوادث وتقليل السرقة، لكنهم يؤكدون أن نجاحها المستدام، يتطلب خطوات مرافقة، أهمها تأمين بدائل للنقل وتطوير خطوط النقل الداخلي لتقليل الاعتماد على الدراجات النارية، وتنظيم سوق البسطات عبر إنشاء أسواق شعبية منظمة في أحياء محددة، بحيث تنقل إليها البسطات بدلاً من مصادرتها بشكل كامل، وتوسيع التوعية المرورية من خلال حملات إعلامية ومدرسية، لزرع ثقافة الالتزام بالقوانين بدلاً من الاقتصار على العقوبات، وتسهيل الترخيص من خلال وضع آليات مبسطة لترخيص الدراجات بأسعار رمزية لتشجيع السائقين على الالتزام بدلاً من دفعهم للعمل في الظل.
خطوة لضبط الشارع
يمكن القول: إن الحملات المرورية التي شهدتها حلب خلال الشهرين الماضيين، مثلت خطوة جريئة لضبط الشارع، وخاصة مع النتائج الملموسة في خفض الحوادث والسرقات. لكن التحدي الأكبر يبقى في تحقيق التوازن بين إنفاذ القانون وحماية سبل عيش الناس، إذ لا يمكن تجاهل أن آلاف الأسر تعتمد على الدراجات النارية والبسطات كمورد رزق، ومن هنا، فإن أي نجاح مستدام لهذه الحملات لن يتحقق إلا إذا رافقتها حلول بديلة عادلة، تأخذ بيد المواطن بدلاً من أن تتركه وحيداً في مواجهة الفقر.إن حلب تحتاج إلى أكثر من مجرد إجراءات أمنية ومرورية آنية، تحتاج إلى رؤية شاملة تدمج الأمن، والتنظيم، والتنمية الاقتصادية، لتصبح شوارعها أكثر أماناً، وحياة سكانها أكثر استقراراً.