سوريا تبحث عن مفقوديها.. بين ذاكرة الألم ومسار العدالة الجديدة

الثورة – إيمان زرزور:
يشكّل ملف المفقودين في سوريا أحد أكثر الملفات الإنسانية تعقيداً وإلحاحاً بعد الحرب، إذ لا تزال آلاف العائلات تعيش بين الأمل والانتظار، تبحث عن أثرٍ لأحبائها الذين غيّبتهم سنوات العنف والاعتقال القسري، وفي خضم هذه المأساة الطويلة، تمثل المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا خطوة غير مسبوقة على طريق بناء عدالة انتقالية سورية تستند إلى الحقيقة والمساءلة والإنصاف.

وقالت رئيسة المؤسسة، كارلا كوينتانا، إن أحد أكبر التحديات التي تواجه عمل المؤسسة هو نقص المعلومات، مؤكدة أن الوصول إلى البيانات والوثائق هو حجر الأساس في تحديد مصير المفقودين وكشف أماكنهم.
وأضافت في حديثها إلى موقع “أخبار الأمم المتحدة” أن “المؤسسة تبحث عن جميع المفقودين في سوريا وأثناء فرارهم منها، دون تمييز في الهوية أو الجهة المسؤولة عن اختفائهم”، مشددة على أن الهدف الإنساني هو معرفة الحقيقة للجميع، لا لفئة دون أخرى.
هذا التصريح يعكس — بحسب خبراء — نقلة في الخطاب الحقوقي السوري، إذ للمرة الأولى تتأسس آلية وطنية الطابع، مستقلة وشفافة، تُعنى بجميع ضحايا الاختفاء، بغض النظر عن الانتماء أو الجهة المسؤولة، في مسعى يعيد تعريف العدالة كمبدأ جامع لا كسلاح انتقامي.
تؤكد كوينتانا أن نجاح المؤسسة مرتبط بعنصرين متلازمين: الثقة والمعلومة، فالثقة تُبنى مع عائلات المفقودين التي تمثل المصدر الأساسي للبيانات، فيما تشكل المعلومات الدقيقة مادة العمل الميداني والتوثيقي للمؤسسة، وتقول: “نحن بحاجة إلى تعاون الأهالي تماماً كما نحتاج إلى الوثائق الرسمية، فكل شهادة يمكن أن تغيّر مجرى التحقيق”.
ويرى محللون أن هذه المقاربة تمثل تحولاً نوعياً في مفهوم العمل الحقوقي السوري، حيث لم يعد البحث عن المفقودين مقتصراً على المنظمات الحقوقية أو جهود العائلات، بل أصبح مساراً مؤسساتياَ منظماً يجمع المجتمع المدني بالجهات الرسمية ضمن رؤية وطنية شاملة.
استفادت كوينتانا، التي عملت سابقاً على ملفات المفقودين في المكسيك وكولومبيا وغواتيمالا والأرجنتين، من خبراتها الدولية لتكييف الآليات مع الخصوصية السورية، موضحة أن “لكل بلد ذاكرته وظروفه، والتجربة السورية ليست نسخة من تجارب أميركا اللاتينية أو البلقان، بل يجب أن تكون بقيادة سورية حقيقية مع دعم دولي فني وتقني”.
ويشير مراقبون إلى أن هذا التوازن بين القيادة المحلية والخبرة الدولية يضمن استقلالية القرار السوري في تحديد أولوياته، ويُكسب العملية مصداقية أكبر لدى الضحايا والمجتمع الدولي في آن واحد.
تعتبر كوينتانا أن عامل الوقت حاسم في عمليات البحث، فكل يوم تأخير يعني ضياع دليل أو شهادة جديدة، قائلة: “ليس لدينا وقت للتجريب، فكل لحظة تمرّ قد تُفقدنا فرصةً للوصول إلى الحقيقة”.
ويشير خبراء العدالة الانتقالية إلى أن هذه المقاربة تُعيد الاعتبار لعنصر السرعة في العمل الحقوقي، في ظلّ ما تواجهه سوريا من خطر ضياع الذاكرة الجماعية مع مرور الزمن وتشتت العائلات وغياب البنية الأرشيفية الرسمية.
وتشرح كوينتانا أن فكرة إنشاء المؤسسة جاءت من إصرار العائلات السورية على العمل الجماعي المشترك، معتبرة أن كشف الحقيقة لا يمكن أن يتم عبر جهة واحدة أو مؤسسة منعزلة، بل عبر تنسيق متكامل بين المنظمات الحقوقية والمجتمعات المحلية والمؤسسات الرسمية.
وقد فتحت المؤسسة عدة مسارات للتحقيق، تشمل المفقودين الذين اختفوا قسراً على يد النظام السابق، والأطفال الذين فُقدوا في عهده، إلى جانب حالات الاختفاء التي ارتكبها تنظيم “داعش”، والمهاجرين المفقودين، والضحايا الذين اختفوا بعد ديسمبر/كانون الأول 2024.
وترى كوينتانا أن “تعدد المسارات لا يعني التجزئة، بل التكامل”، مؤكدة أن كل ملف يفتح نافذة جديدة على الحقيقة، وأن الإفادات التي حصلت عليها المؤسسة من العائلات والناجين تشكل اليوم قاعدة بيانات ثمينة لبناء خريطة وطنية للمفقودين.
تولي المؤسسة المستقلة أهمية قصوى لحماية المعلومات والبيانات التي تجمعها، وهو جانب أساسي في بناء الثقة بين الأهالي والمؤسسات، فالتجارب السابقة في سوريا كشفت حجم الخوف من تسريب المعلومات أو إساءة استخدامها، لذلك تؤكد كوينتانا أن “الخصوصية ليست ترفاً إدارياً، بل ضمانة للكرامة الإنسانية”.
هذا الالتزام بالشفافية وحماية البيانات يمثل — بحسب خبراء قانونيين — الركيزة الأخلاقية والقانونية التي تُعيد للمجتمع السوري ثقته في مسار العدالة، وتمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل.

وتؤكد كوينتانا أن هدف المؤسسة لا يقتصر على معرفة مصير المفقودين فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة ترميم النسيج الاجتماعي السوري وإحياء ذاكرة وطنية تقوم على الاعتراف والعدالة، وتقول: “كل اسم نصل إليه هو عائلة تُشفى، وجزء من وطن يُستعاد”.

ويرى محللون أن هذه المقاربة الإنسانية العميقة تجعل من ملف المفقودين مفتاحاً للعدالة الانتقالية في سوريا، إذ يربط بين الحق الفردي في الحقيقة والحق الجماعي في المصالحة.

ويعتبر إنشاء المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا تحولاً تاريخياً في التعامل مع ملف الاختفاء القسري، بعد عقود من الصمت والإنكار. فهي أول هيئة تعمل بتفويض إنساني وقانوني مشترك، تجمع بين جمع البيانات الميدانية وبناء منهجية وطنية قائمة على المشاركة والمسؤولية المشتركة.

ويؤكد خبراء العدالة الدولية أن هذه الخطوة تضع سوريا على طريق استعادة الحق والكرامة، وتفتح الباب أمام مساءلة منتهكي حقوق الإنسان، تمهيداً لبناء دولة مؤسسات وقانون.

تقول كوينتانا في ختام حديثها: “البحث عن المفقودين ليس مجرد جهد إداري، بل فعل مقاومة في وجه النسيان”.

وفي بلدٍ مثل سوريا، غابت فيه الحقيقة طويلاً، فإن الجهود الجارية اليوم ..رغم صعوبتها تمثل بداية استعادة الذاكرة الجماعية، وبناء العدالة من تحت الركام.

آخر الأخبار
فوضى الكابلات والأسلاك.. سماء دمشق تحت حصار الإهمال المتجذر !   تحويلات الخارج تحرّك السوق..وتبُقي الاقتصاد في الانتظار تقرير حقوقي يوثق انتهاكات واسعة ترتكبها "قسد" في الرقة ودير الزور الروابط الفلاحية في حمص تطالب بإنقاذ محصول الزيتون من أزماته أردوغان: على "قسد" أن تكمل اندماجها في المؤسسات السورية نمو هشّ وفقر متواصل تنفيذ اتفاق 10 آذار.. فرصة تاريخية لتوحيد سوريا واستقرارها فرصة إضافية لتثبيت الملكية في تنظيم جنوبي المتحلق بدمشق الاستمطار الصناعي لمياه أسرع وأرخص دعم النشر العلمي الدولي في جامعة حلب سوريا تبحث عن مفقوديها.. بين ذاكرة الألم ومسار العدالة الجديدة جهود مستمرة لتحسين البنية الخدمية وفتح الطرق في ريف إدلب التنمر ضد الطلاب في المدارس.. تأثيراته النفسية والاجتماعية والأكاديمية الشؤون المدنية تواصل تطوير خدماتها في حلب وريفها حياة الركاب في مهبّ الريح.. تدهور واقع النقل العام في حلب الفروج يحلّق بأسعاره.. مطالب ملحة لدعم القطاع قبل فوات الآوان تفعيل خدمة "غير محكوم" في مراكز خدمة المواطن بدمشق أسعار المحروقات تثقل كاهل المواطن وتعمّق الأعباء المعيشية "رحمة بلا حدود".. تؤهل آلاف المقاعد و9 مدارس في درعا غياب المنظومة المصرفية الاستثمارية يعطل نمو الاقتصاد