حلب تحت وطأة الغلاء.. الرواتب تتبخر والأسعار تلتهم جيوب المواطنين

تحقيق: جهاد اصطيف:

تتواصل موجات الغلاء بوتيرة متسارعة في أسواق حلب، ضاربة معظم المواد التموينية والضرورية التي لا يمكن لأي أسرة الاستغناء عنها، كالزيت والسكر والسمنة وغيرها.

خلال الأشهر الماضية، تجاوزت نسبة الارتفاع في بعض المواد حاجز الـ 25%، وفق ما يؤكده تجار ومستهلكون التقتهم صحيفة الثورة، ما جعل المواطن الحلبي يعيش حالة من الإنهاك الاقتصادي في ظل تراجع القوة الشرائية وثبات الدخل، وغياب واضح لآليات رقابة فاعلة قادرة على ضبط السوق.

 من الميدان

في جولة سريعة على عدد من أسواق المدينة، من باب الجنان إلى الجميلية فميسلون، وصولا إلى حي الشعار الشعبي، بدا المشهد واحداً: ازدحام خفيف على المحال، لكن حركة البيع شبه معدومة.

يقول عبدالله حمد، أحد أصحاب محال المواد التموينية: كل يوم نستيقظ على تسعيرة جديدة، الأسعار ترتفع بشكل مفاجئ، ونحن بدورنا مضطرون للرفع حتى لا نخسر، لم يعد لدينا استقرار في السوق.

وبحسبما يؤكده تجار الجملة، فإن التسعيرة الرسمية للمواد تحدد وفق سعر صرف يبلغ 15500 ليرة للدولار الواحد، في حين إن سعر الصرف في السوق الموازية يتراوح بين 11400 و 11500 ليرة، هذا التفاوت الكبير يثير تساؤلات حول آلية التسعير، حيث يضيف حمد: نحن لا نعرف على أي أساس تحدد الأسعار، تأتي اللوائح من كبار الموردين، ونحن نلتزم بها حرفياً، أي مخالفة تعني حرماننا من التوريد أو خسارة المورد.

ويرى مراقبون اقتصاديون أن تعدد أسعار الصرف وفقدان الشفافية في التسعير يشكلان بيئة خصبة للمضاربة والاحتكار، إذ يبرر كبار التجار ارتفاع الأسعار بحماية بضائعهم من تقلبات السوق، في حين تبقى الحقيقة غامضة بالنسبة للمستهلك.

الراتب لا يكفي أسبوعاً

في المقابل، يعاني المواطنون في حلب من أزمة معيشية خانقة، فالموظف الذي يتقاضى راتباً لا يتجاوز المليون ليرة سورية يجد نفسه أمام أسعار تفوق قدرته الشرائية بأضعاف.

تقول السيدة زهية مصطفى أعمال حرة: في كل مرة أذهب إلى السوق أعود بأقل مما كنت أشتريه سابقاً، كيلو السكر صار أكثر من 8 آلاف ليرة، الزيت النباتي تجاوز 22 ألفاً، وكيلو الأرز الجيد بات رفاهية، نحن نعيش على الكفاف، ولا نعرف كيف نؤمن احتياجات الشهر.

أما محمود درمش، عامل في ورشة خياطة، فيقول بمرارة: الأسعار تحلق، والرواتب في الأرض، ما نكسبه خلال أسبوع لا يكفي لشراء مؤونة يومين، فبعض الناس بدؤوا يشترون المواد بالحبة أو بالكيلو بعد أن كانت تشترى بالكرتونة.

في الأسواق الشعبية، تنتشر مشاهد جديدة على المجتمع الحلبي: الناس يسألون عن الأسعار أكثر مما يشترون، وبعض العائلات تكتفي بزيارة السوق للنظر فقط.

يقول سمير عبد، بائع في حي الشعار: الزبون يدخل، يسأل عن السعر، ويتنهد ويخرج، لم يعد الناس يشترون كما في السابق.

جشع التجار يفاقم الأزمة

ورغم أن كثيراً من التجار يعزون ارتفاع الأسعار إلى عوامل خارجية مثل سعر الصرف أو الرسوم الجمركية، إلا أن جزءاً كبيراً من المواطنين يرى أن جشع التجار يلعب دوراً رئيساً في تفاقم الأزمة.

يشير هاني حمود، موظف حكومي إلى أنه كلما ارتفع الدولار ليرة واحدة، رفعوا الأسعار، لكن حين ينخفض لا يتغير شيء من يراقب هؤلاء؟.

تؤكد شهادات من الأسواق أن بعض التجار يتعمدون تخزين السلع لفترات قصيرة بانتظار صدور تسعيرة جديدة أعلى، لتحقيق أرباح إضافية، فيما يتحمل المستهلك عبء تلك المضاربات.

ويؤكد أحد أصحاب المحال في حي الجميلية: الاحتكار أصبح وسيلة لتحقيق الربح، هناك تجار كبار يسيطرون على السوق، ولا أحد يستطيع منافستهم.

خبراء اقتصاد يصفون هذه الظاهرة بأنها “اقتصاد أزمات”، حيث يتحول الخوف من الخسارة إلى وسيلة لتبرير رفع الأسعار، وفي ظل غياب رقابة فعالة من الجهات المختصة، تتحول الأسواق إلى بيئة مفتوحة للتلاعب والربح السريع.

التهريب جرح المفتوح

جانب آخر من المشكلة يتمثل في تهريب المواد، الذي ينعكس سلباً على الصناعة المحلية والاقتصاد الوطني.

يقول تاجر في سوق الجميلية: إن البضائع المهربة تدخل بأسعار غير خاضعة للجمارك أو الضرائب، ما يضر بالمصانع السورية التي لا تستطيع المنافسة، النتيجة أن المنتج المحلي يختفي، ويستبدل بمهرَّب أغلى أو أردأ.

ويشير إلى أن التهريب لا يقتصر على المواد الفاخرة، بل وصل إلى المواد الغذائية، الأمر الذي خلق فوضى في الأسعار وضرب الصناعة الوطنية في الصميم.

ويشير اقتصاديون وأصحاب فعاليات في كل مناسبة، آخرها اللقاء الحواري الذي عقدته مديرية التجارة الداخلية بحلب يوم أمس، إلى أن إيقاف التهريب يتطلب تنسيقاً واسعاً بين الجمارك والوزارات المعنية، وضبط الحدود بشكل فعال، مؤكدين أن استمرار هذه الظاهرة يجعل من أي إصلاح اقتصادي مجرد محاولة ترقيعية.

مراجعة جمركية وقرارات قادمة

في تصريح سابق لمعاون وزير الاقتصاد والصناعة، أكد أن سوريا تضم نحو 6500 بند جمركي، وأن الوزارة بدأت فعليا بمراجعة الرسوم الجمركية لمعالجة ما سماه “التشوهات السعرية في الأسواق”، وأن الوزارة تلقت أكثر من 150 طلباً من غرف التجارة والصناعة في المحافظات للنظر في زيادات غير مبررة بأسعار بعض المواد، وأن العمل جار على إصدار حزمة قرارات جديدة لدعم الصناعة الوطنية وتسهيل استيراد المواد الأولية للإنتاج، مضيفاً أن الحكومة تسعى إلى تحقيق توازن بين حماية الصناعة المحلية ومنع الاحتكار، مؤكداً أن بعض الزيادات الأخيرة “غير مبررة اقتصادياً” وتخضع حالياً للدراسة. لكن رغم هذه التصريحات، تبقى الأسعار على حالها، بل وتواصل الارتفاع، فبينما تؤكد الحكومة أنها تتخذ خطوات “مدروسة”، يرى المواطن أن النتائج ما تزال غائبة على أرض الواقع.

عدد من البائعين يشيرون إلى أن الناس لم يعودا يهتمون للتصريحات، وما يهمهم هو الأسعار في السوق، وإذا بقيت مرتفعة فلن يصدق أحد أن هناك إجراءات حقيقية.

  حضور باهت وأثر محدود

من الناحية النظرية، تمتلك مديرية التموين صلاحيات واسعة لضبط الأسعار ومنع الاحتكار، لكن على أرض الواقع، يقول باعة ومستهلكون إن الرقابة التموينية لا تزال محدودة التأثير، فالرقابة تمرّ أحياناً، لكن مهما فعلوا تبقى شكلية، ولا تردع أحداً. في المقابل، أكد مدير التموين في حلب أكثر من مرة، آخرها خلال لقائه المفتوح مع فعاليات حلب بالأمس، أن المديرية تنفذ جولات يومية وتحرر العديد من الضبوط، لكنه يعترف بأن الأسواق أكبر من طاقة الرقابة الحالية، مشيراً إلى نقص الكادر وضغط العمل وتعدد المهام. ويرى مختصون أن الحلّ لا يكمن في الضبوط التموينية فقط، بل في تطبيق نظام تسعير عادل وشفاف يربط السعر الحقيقي بتكلفة الإنتاج وسعر الصرف الفعلي، إلى جانب تفعيل دور النقابات والاتحادات المهنية في الرقابة الشعبية.

 إصلاح شامل

يشير الاقتصادي فادي حمود إلى أن السوق السورية اليوم لا تعمل وفق قواعد الاقتصاد الطبيعي، فهناك ضعف في الإنتاج، وفجوة في الرقابة، وتهريب واسع، هذه العوامل مجتمعة تجعل الأسعار غير منطقية، مهما حاولت الحكومة التدخل. ويضيف أن إصلاح السياسة الجمركية والضريبية، وتوفير حوافز حقيقية للصناعة المحلية، كالذي تسعى إليه الحكومة الآن، هو الطريق الوحيد لإعادة التوازن إلى السوق. ويتابع: إذا لم نضمن استقرار الانتاج المحلي، فلن نستطيع التحكم بالأسعار، لأن الاعتماد على الاستيراد وحده يجعل السوق رهينة للدولار والمورد.

  بين الواقع والوعود

النتيجة النهائية لكل هذه المعادلات تبقى واضحة: المواطن هو الخاسر الأكبر، فرغم محاولاته الدؤوبة للتأقلم مع الأوضاع، إلا أن الفجوة بين الأسعار والدخل تتسع يوماً بعد يوم. العائلات تقلّص وجباتها، وتختصر مشترياتها، وبعضها يلجأ إلى القروض الصغيرة أو المساعدات.

أسواق حلب، تقف اليوم عند مفترق طرق صعب، بين إجراءات حكومية تحاول ضبط السوق، وتجار يبحثون عن الربح بأي ثمن، ومواطنين يطاردون الأسعار في سباق خاسر مع الدخل المحدود. ورغم كل الوعود والقرارات، تبقى الحقيقة المؤلمة أن الغلاء صار نمط حياة، والأسعار في صعود مستمر، فيما الأمل بتعافي الاقتصاد ما يزال بعيداً، يلوح كحلم مؤجّل في أفق مثقل بالتحديات. وحتى إشعار آخر، يبدو أن المواطن الحلبي سيبقى يقاوم بلقمة العيش، في مدينة لم تهزمها الحرب، لكنها اليوم تواجه حرباً من نوع آخر اسمه حرب الغلاء.

آخر الأخبار
جسر جوي جديد يُنعش الروابط السورية- الليبية حلب تحت وطأة الغلاء.. الرواتب تتبخر والأسعار تلتهم جيوب المواطنين أغلب الأميركيين يؤيدون سحب قوات بلادهم من سوريا والعراق  مسح الأمن الغذائي لكشف جوع الأسر   استجابة طبية فورية تنقذ مرضى  مستشفى الأطفال بدمشق من الحريق  من هو السفير السعودي الجديد لدى دمشق؟ تحركات جادة لتحسين الواقع الخدمي في دوما وصيدنايا فريق أهلي لمعالجة الأزمات الخدمية في جديدة عرطوز  محافظة دمشق : الحديث عن تهجير طائفة معينة " بالقدم  " عار عن الصحة  بيان لـ"تربية حلب" يكشف تفاصيل   تتعلق بالعاملين في مجمعات الشمال  الطاقة المستدامة .. القطاع الخاص يقود فرص العمل  مفاضلة لملء الشواغر في مدارس المتفوقين بالقنيطرة بيان "الهجري" تغيير اسم جبل العرب إلى "باشان" محاولة يائسة لتسخين المشهد محافظة دمشق تكذب شائعة تغيير اسم ساحة المرجة     الفلسطينيون يشقون طريقهم وسط الأنقاض نحو منازلهم      القبض على أحد أفراد عصابة سرقة كابلات الكهرباء بدرعا     "قيصر" يقترب من نهايته.. تعاف اقتصادي ومصرفي يلوح بالأفق     الصحة المجانية للفقراء ... والمقتدرون ملزمون بالدفع     "فزعة منبج".. تجاوزت 11 مليون دولار لدفع عجلة إعادة الإعمار     إلغاء قانون قيصر..بوابة الانفراج الاقتصادي في سوريا