الثورة ـ ثناء أبودقن:
في كثير من المدن السورية، تشكّل الأسواق ملاذاً اقتصادياً واجتماعياً بارزاً، حيث يتمّ تداول معظم البضائع وصناعات الخضار والفواكه والمنتجات الزراعية، لكن وراء البضائع التي تُعرض في هذه الأسواق، تجد قصة إنسانية مليئة بتفاصيل حياتية، شخصيات تعكس الصورة الحقيقة لمسيرة إنسان بكل أحزانها وأفراحها، فمن وفرة الصحة والطاقة وعنفوان الشباب إلى ضمور العافية وخوار القوى. من هنا نحاول أن نرصد جانباً من حياة بعض كبار السن، الذين عاصروا مختلف الظروف عبر سنين طويلة، لطالما يجدون في الأسوق مصدراً للعيش الكريم، و وسيلة للاستمرار وكسب العيش، ومجالاً لتقديم الدعم المادي للأسرة. ويعد هؤلاء المسنون مثالاً حيّاً على قوة الإرادة في مواجهة التحدّيات الحياتية اليومية، حتى بعد بلوغهم سنّ التقاعد والشيخوخة.
أبوعمر عبد الرحمن عبيد الذي قارب الثمانين من عمره، هو واحد من هؤلاء الذين ما زالوا يواصلون العمل في سوق الهال في مدينة دمشق. قد لا يتمكن من حمل الصناديق الثقيلة كما في شبابه، لكنه يمتلك بصيرة وثقافة كبيرة حول كل منتج يبيعه. كل صباح، يخرج من منزله في “دوما” متوجهًا إلى السوق، حيث يقوم بتوزيع الخضار والفواكه على التجار والمستهلكين.
لم يثنه التقدم في العمر أو الظروف الاقتصادية الصعبة عن عمله، بل إنه يعتبره جزءاً من حياته اليومية التي لا يمكنه الاستغناء عنها أو التنفس بعيداً عنها.. يقول: أحس أنني لا أستطيع التنفس عند الجلوس في المنزل بعيداً عنه، وجودي في السوق ليس مجرد عمل، هو تمسكي بصحتي وعافيتي، عندما آتي إلى هنا، أشعر أنني أظل مرتبطاً بالحياة، الناس هنا يعرفونني، وأعرفهم، هناك نوع من الألفة بيننا، هنا أمضي معظم وقتي، أبيع وأشتري أتشارك مع الجميع تفاصيل حياتنا العامة وأنا رجل هل يجب أن أبقى في البيت؟ لأموت على البطيء؟. هذه الكلمات تختصر روح العمل للمسنين في السوق، حيث يجد كبار السن في هذه الأماكن مجالاً لإثبات وجودهم ومواصلة العطاء.
دلّة قهوة وفنجان
الحج سعيد الزوربي أبو عدنان65 سنة، بلباسه التراثي العتيق وأخلاقه العالية وكرمه وطيبته المفرطة التي أصبحت سمة من سمات سوق مدحت باشا، يجول الحارات والطرقات، ينشر عبق الماضي مع تصاعد أبخرة مصبّه النحاسي، يزرع البسمة بخطواته الهُوينَى، مشفوعة بالدعاء لكل متذوق قطرات قهوته المرّة المعطرة بنكهة الهيل الأخاذة.
يحكي أبو عدنان: هذا مصبّ المرحوم والدي وهو ذاته كان لجدي رحمهم الله، شرب منه معظم سكان دمشق فقد كان جدي لأبي يملك قهوة على رصيف سوق مدحت باشا والتي جرفها التوسع العمراني لهذا السوق.. راحت القهوة وراح معظم أُناسها ومن كان يعرفها أو يرتادها وبقيت بعض الأدوات، ومنها هذا المصب، لو يستطيع هذا المصبّ الكلام لروى تاريخ الشام، وأحوال أهالي الشام، سقى الفرحين والمشاركين بالأعراس والأعياد والأفراح والولادات وكان رفيق الأحزان والوفيات بمرارة قهوته، هو حكاية العمر الذي كان والذي مضى، وحكاية الأصل والجدود، حكاية جدي وأبي وعمري الذي راح إلى الأبد.
تعتذر عن الاستراحة
في وسط أكوام الفاصولياء جلست حبيبة أم ياسين (73سنه) تفرط قرون الفاصولياء “عيشه خانم” وبجانبها أحفادها الثلاثة اليافعين يساعدونها في تعبئة الحبوب و ترحيل القشور، وتعتذر عن الاستراحة لتحدثنا وهي تعمل لأن لديها طلبية مستعجلة. أشارت لأحفادها وقالت هؤلاء أحفادي من ابني المرحوم توفي في المعتقل وكانت زوجته حاملاً بآخر ولد، ثم توفي زوجي بعده بسنتين فقط، ولم يعد لدينا معيل، ويعزّ عليَّ بعدما كنت معزّزة مكرّمة في بيتي أن أعيش على صدقات الآخرين وشفقتهم علينا، فدفنت حزني بقلبي، واستودعت موتاي عند الله، وشمرت عن ساعديّ لأعيل أسرتي بعرق جبيني كانت البدايات صعبة جداً ومليئة بالدموع والقهر.
لكن المرأة التي استطاعت أن تتحمل آلام الولادة تستطيع أن تتحمل آلام العمل، وتعرفت على أشخاص يعملون بتجهيز الخضار وبيعها جاهزة بالأسواق مثل قطف الملوخية و الأرضي شوكي وسلق المكدوس وتفريط الفول والبازلاء والفاصولياء. كان العمل متعبا جداً والمردود لا يفي حاجيات الأسرة ولكنه حفظ ماء وجهنا ونشلنا من الجوع كما يقال، ثم قررت الانفراد بالعمل لوحدنا فبعت كل شي وتعاملت مع سائق سيارة (سوزوكي) وصرت أذهب بنفسي لسوق الهال لشراء الخضار، ونتساعد كلنا في البيت لتجهيزها ثم أقوم ببيعها وتوزيعها بالسوق بنفسي ومعي أولاد ابني للتدريب والمساعدة والحمد لله الأمور المعيشية أصبحت أفضل من قبل، وأرجو من الله أن يمنّ علينا بشراء سيارة صغيرة لتحميل وتسويق أشغالنا..أظن أن هذا يوفر علينا
كثيراً وفي الوقت نفسه يستطيع أحفادي الاعتماد على أنفسهم مستقبلاً وتحسين أوضاعهم.
وبينما يعاني كثير من المسنين صعوبة في توفير حياة كريمة، تظل الأسوق بالنسبة لهم ملاذاً وفرصة للاستمرار في حياة مليئة بالحركة والعمل.
هؤلاء الأشخاص، الذين شهدوا تقلبات الزمن والحروب، يقدمون نموذجاً فريداً في العطاء والصمود، ويظلون جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع السوري، الذي يقدر ويحتفل بتجاربهم وحكمتهم.
شعور بالفقدان
وانطلاقاً مما تقدم تؤكد خلود بدران اختصاصية علم النفس والتشخيص الاجتماعي حول واقع عمل المسنين وآثاره عليهم أنه وبمجرد أن يتجاوز الشخص سن التقاعد، قد يشعر بفقدان جزء كبير من هويته الاجتماعية التي كانت متعلقة بوظيفته أو مكانته في العمل.
لذلك، يساهم العمل في الحفاظ على الشعور بالإنجاز والاحترام الذاتي، عندما يستمر المسن في العمل، حتى وإن كان ذلك على أساس جزئي أو من خلال عمل تطوعي، فإن ذلك يعزز شعوره بأنه لا يزال له دور مهم في المجتمع ما يجعلهم يشعرون بالكرامة والمساهمة، ولاسيما أن الكرامة الإنسانية لا تتوقف عند كبير السن، بل يستحق كل فرد بغض النظر عن عمره، أن يشعر بأنه قادر على المساهمة والمشاركة في الحياة، فالعمل جزء أساسي من هوية الإنسان في معظم المجتمعات، وعندما يتوقف الشخص عن العمل، قد يشعر ببعض العزلة أو فقدان الاتصال بالمجتمع.
وبالنسبة للمسنين تلحظ بدران أنه يمكن أن يكون العمل وسيلة للحفاظ على هذه الهوية الاجتماعية، فالوظيفة أو النشاط المهني لا يقتصر على كونه وسيلة للعيش، بل هو أيضاً وسيلة للتفاعل مع الآخرين، وبالتالي عندما يظل المسن يعمل، حتى ولو في دور صغير، فإنه يظل جزءاً من النسيج الاجتماعي، سواء كان العمل تطوعياً أو مدفوعاً مقابل أجر، فإنه يسمح له بالحفاظ على تفاعلاته مع الآخرين، ويتيح له الفرصة للتواصل مع الأجيال المختلفة، ما يخلق علاقات اجتماعية مستدامة.
وأشارت الاختصاصية إلى أن العمل لا يعني فقط أداء المهام اليومية، بل يشمل أيضاً التحدي الفكري والنمو المستمر، وبالنسبة للمسنين، يمكن أن يكون العمل أداة فعالة للحفاظ على النشاط العقلي والقدرة على التعلم والتطور، لكون النشاط الذهني المستمر يعزز من قدرة المسن على التفكير النقدي وحل المشكلات، ما يساهم في تقوية الذاكرة والانتباه.
وتابعت، من خلال تعلم مهارات جديدة أو حتى التكيف مع التكنولوجيا الحديثة، يتمكن المسن من تجنب العزلة الذهنية التي قد تنتج عن الخمول أو الابتعاد عن الأنشطة الفكرية، فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن للمسنين الذين يعملون في مجالات استشارية أو في الأعمال الحرة أن يبقوا في حالة تعلم مستمر ويشعرون بالتحدي بشكل إيجابي.
تحقيق التوازن بين العمل والراحة
بدران تؤكد أنّ الجوانب الإنسانية المهمة لعمل المسنين هي القدرة على تحقيق التوازن بين العمل والراحة، إذ مع تقدم العمر، يصبح من الضروري للمرء أن يوازن بين الحاجة للعمل والحاجة للراحة، ومع توفر بعض الوظائف الجزئية أو المرنة للمسنين يعد فرصة لتنظيم أوقاتهم بما يتناسب مع صحتهم البدنية والنفسية، في حين إن العمل يمكن أن يكون مصدراً للتفاعل الاجتماعي والتحفيز، بحيث يتماشى مع قدراتهم البدنية والعقلية، فعندما يتمكن المسن من التوفيق بين العمل والراحة، فإنه يقلل من التوتر الناتج عن الضغط النفسي أو الإجهاد البدني، ويحافظ على نوعية الحياة بشكل عام.
وتطرقت الاختصاصية النفسية في معرض حديثها إلى أن العزلة الاجتماعية من المشكلات الرئيسية التي يواجهها العديد من كبار السن، خصوصاً مع التقاعد أو التغييرات في حياتهم الاجتماعية، بمعنى قد يشعر المسن بالعزلة عندما يقل التفاعل مع الأصدقاء والعائلة أو يتوقف عن التواصل مع الزملاء السابقين في العمل، فالاستمرار بالعمل، سواء كان بدوام جزئي أو تطوعي، يمكن للمسنين الحفاظ على شبكة اجتماعية حية، حيث التفاعل اليومي مع الزملاء أو العملاء يمنحهم فرصاً للتواصل والمشاركة في الحياة اليومية، ما يقلل من مشاعر الوحدة والعزلة في بعض الأحيان، ويصبح مكان العمل هو المصدر الرئيسي للدعم الاجتماعي، ما يساهم بشكل كبير في رفاههم النفسي.
خبرة وذاكرة
إن وجود كبار السن في بيئة العمل يتيح لبعضهم فرصة نقل تجربتهم وحكمتهم للأجيال الشابة، ما يعزز من قيمة الخبرة الحياتية والمهنية، فحين يختار العديد من هؤلاء المشاركة في العمل التطوعي، ليس فقط كوسيلة للتفاعل الاجتماعي أو البقاء نشطين، بل لأنه يساهم في شعور المسن بالسعادة والرضا عن نفسه، ويعزز من احترامه لذاته واعتزازه بمساهمته في تحسين حياة الآخرين، كما يعزز من ارتباطهم بمحيطهم الاجتماعي ويشعرهم بأنهم جزء لا يتجزأ من الحلول الاجتماعية، ويمنحهم الشعور بالإنجاز والاحترام.
وتختم الاختصاصية حديثها بالقول: إن الجانب الإنساني لعمل المسنين يتجاوز مجرد كونه وسيلة للعيش أو تحقيق دخل مادي.
إنه يشمل الحفاظ على الهوية وتعزيز العلاقات الاجتماعية، مع الاستمرار في النمو الفكري والتحدي، وكذلك تحسين الصحة النفسية.
باعتبار العمل يساهم في إبقاء المسنين نشطين، متفاعلين مع المجتمع، مع تزايد أعداد المسنين في المجتمع، وبالتالي من المهم أن نعي قيمة هذه الفئة وندرك أن العمل ليس فقط وظيفة، بل هو جزء من الحياة الإنسانية .