الثورة – ميسون حداد:
ما من إنسان يسير خفيف القلب، فلكلٍّ منّا حكايات يحاول دفنها مع الماضي، وجراح حاول أن ينساها لتمضي الحياة، لكنّها تعود في لحظة ما أو في ملامح وجهٍ عابر لتذكّره بأن الماضي لم يرحل بعد ولا يُشفى بالزمن وحده، بل الوعي!
وحده الإدراك لما كان، وقبول ما لا يمكن تغييره، يمنحنا القدرة على أن نتصالح مع ذاكرتنا، ونمضي نحو الغد بقلب أكثر هدوءاً ونظرة أوسع للحياة.

حين يختبئ الألم في اللاوعي
يقول الأب رامي الياس، الكاهن اليسوعي والمحلل النفسي: إن جروح الماضي تبقى مدفونة في اللاوعي، حيث تعمل آليات الكبت والدفاع اللاواعي على إخفائها، لكنّها لا تُلغيها.
الإدراك للماضي أمرجيد وخطوة أساسية، لكنّه لا يكفي وحده لتجاوزه، بل لا بدّ من عمل نفسي عميق على الذات “التحليل النفسي أو طرق علاجية أخرى مستوحاة من التحليل”، يسمح لهذا الماضي بالخروج من الظل إلى النور، وقبوله كجزء من التجربة الإنسانية التي تجمع بين الفرح والألم، الإيجابي والسلبي، الحياة والموت.
أما الخطوة الثانية في رحلة التحرّر من الجراح فهي توجيه البصر نحو الإيجابي، سواء في الحاضر أو في الماضي يقول الأب رامي، فحتى أكثر الفصول وجعاً لا تخلو من ومضات خيرٍ أو لحظات قوة صاغتنا على نحوٍ ما،غير أنّ ثقافتنا غالباً ما تُربّي أبناءها على التركيز في السلبي، لا على رؤية ما هو مشرق.
فنادراً ما نسمع من الأهل مثلاً كلمة تشجيع صادقة خوفاً من أن “يكبر رأس الابن أو يقع في الغرور”، فننشأ ونحن نميل إلى جلد الذات بدل الاحتفاء بإنجازاتنا الصغيرة.
التحرر لا يعني الهروب
التحرر من الماضي لا يعني الهروب منه، فالماضي الذي لم يُعالَج يعود في الجسد على شكل أمراض “نفسجسدية”، أو في اللغة من خلال زلات اللسان، أو في ردود أفعال مبالغ فيها تفوق الموقف ذاته، أما التحرر الحقيقي، فيحدث حين يفقد الماضي سلطته علينا، فلا يتحكم بانفعالاتنا ولا يوجّه اختياراتنا.
“القبول” مفتاح البداية
في مواجهة التجارب القاسية، يضع الأب رامي الخطوة الأولى والأهم في كلمة واحدة “القبول”!
أن نقبل ما حدث لا يعني أن نرضى به، بل أن نعترف بأنه جزء من الواقع الإنساني الذي لا يخلو من الألم! إن رفض الواقع، كما يقول، هو جذر المعاناة.
فعبارة “ما كنت أتصور أن يحدث معي هذا” تعبّر عن مقاومة للواقع، بينما الشفاء يبدأ من الاعتراف بأن ما جرى قد جرى، وأن الحياة تستمر رغم كلّ شيء.
“المسامحة” تعيد بناء الداخل
كل تحوّل يبدأ من الذات، فمَن لم يعرف الحبّ في طفولته، يصعب عليه أن يحبّ أو يسامح لاحقاً، لذا فإن التحرر من الماضي يمرّ عبر “المسامحة”، لأن الغفران للذات وللآخرين يفتح باب الشفاء.
وللتحرّر من الماضي المؤلم أو من تجربة قاسية، لا بدّ من التوقّف عند سؤال جوهري: ما مدى مسؤوليتي عمّا حدث؟ فحين أتحمّل نصيبي من المسؤولية، أتمكّن من مسامحة نفسي، ومنها تنبع القدرة على مسامحة الآخرين.
فالمسامحة ليست ضعفاً، بل نعمة عظيمة تجعل العيش المشترك ممكناً، ويوضح الأب رامي: “من دونها يتحوّل المجتمع إلى جحيم من الأحقاد والمرارة، بالمسامحة فقط نستطيع أن نبدأ من جديد، أي أن نتجاوز الألم، ونتقبّله كجزء من مسارنا، لنقيم علاقات أكثر صدقاً ومحبّة ووضوحاً”.
الثقة بدل الخوف
حين يتحقق التحرر بالمعنى الذي تم توضيحه، يتم تجاوز الخوف من الوقوع مجدداً بتجربة مؤلمة لأنني أصبحت إنساناً يقبل الواقع وبالتالي تنمو وتكبر ثقتي بذاتي وبالآخر مما يسمح لي بالبدء من جديد والتخطيط للمستقبل.
فالإيمان بالقدرة على التغيير يولّد طاقة تدفع الإنسان نحو المستقبل، من يقبل الواقع كما هو لا يخشاه، ومن يتصالح مع ماضيه، يكتشف أنه قادر على كتابة فصول جديدة من حياته، لا كضحية لما كان بل كصاحب قرار فيما سيكون.