الثورة – محمد الحريري:
تجد الموسيقا طريقها إلى دهاليز القلوب، فهي الحامل الوديع لأثقال الروح، والعزاء الذي يطفئ لوعة الحزن.
مساء أمس، كانت دار الأوبرا في دمشق على موعد مع أمسية موسيقية بعنوان “لونغة”، كانت وقفة تأمل أمام جوهر الموسيقا العربية الخالية من صخب الغناء، حيث تنطق الآلات بما تعجز عنه الحنجرة.

رسوخ الجذور وفخامة الافتتاح
انطلق الحفل الموسيقي بوقار يليق به، اختارت الفرقة أن تبدأ بمقطوعة “سماعي نهوند”، وهي من تأليف المايسترو “عدنان فتح الله”. كان هذا الاختيار بمثابة إرساء الجذور قبل الشروع في التحليق في فضاء اللحن. عبّر المايسترو ” فتح الله”، الذي كان حاضراً بين الجمهور، عن سعادته وإعجابه بالانضباط الفني للفرقة والتنفيذ المتميز للعمل، مثنياً عليها بقوله: “حفل متقن واحترافي بحق، السماعي عزف بطريقة مختلفة وجميلة جداً، سعدت بوجودي أمام هذه الفرقة”. فشهادته كانت بمثابة ختم الجودة على أن الافتتاحية كانت معبرة ومشوقة لسماع المزيد من المقطوعات الموسيقية.
سكينة الروح
بين صخب الآلات وشغف العازفين، توالت المقطوعات الموسيقية واحدة تلو الأخرى، لتشكل فصولًا متماسكة من رواية موسيقية أخذت الجمهور في رحلة عبر تضاريس الوجدان الموسيقي الشرقي، من أقصى حركته إلى عمق سكونه. تابعت الرحلة بمقطوعة راقصة يحمل اسم الحفل “لونغة”، وهي كلمة تعبر عن الحركة والتجدد. يوضح قائد الفرقة وعازف الكمان “المثنى علي”: “هي رقصة ثنائية تأرجح القلوب بين حب وحنين”. إنها بوابة إلى عالم الإيقاع الذي لا يكتفي بالرتابة بل يستفز المشاعر.

ثم مرر العازفون الجمهور عبر “مندرة حجاز”، ذات الإيقاع المركب الذي يتطلب مهارة عالية، وصولاً إلى “بوسليك نار الأناضول”، التي أشعلت جمر الحماس في القلوب، فكانت بمثابة تحدٍّ لقدرة الفرقة الموسيقية على تجسيد أصعب المقطوعات، بطاقة لا تخفت. لكن اللحظة الأعمق روحانياً، والتي جاءت لترسخ التوازن، كانت في مقطوعة “بشرف حب”، حيث هدأ الإيقاع وألقت الفرقة بظلال من التأمل. هذا التوازن المتقن بين الحيوية الراقصة والسكينة الجليلة هو سرّ جمال الليلة، وهو ما يثبت أن الموسيقا العربية لا تعيش على وتر الشجن الطويل. وقد لخص المثنى علي هذا التوجه قائلاً: “البشرف” يظهر الهدوء وهدوء الروح، فهو بذلك كدعوة لهدوء وسكينة الروح”. هذا التناغم بين صخب الإيقاع ورقة السكينة منح الجمهور تجربة متكاملة الأبعاد، تطهر الروح وتعلي من شأن الموسيقا.
ألحان خالدة
في تحول لافت، انتقلت الفرقة من القوالب الآلية إلى عزف ألحان لأغنيات تتربع على عرش الذاكرة العربية، حيث تحولت الآلات إلى حنجرة واحدة بصوت واحد، تعيد غناء الألحان الخالدة. شملت هذه الوصلة أيقونات خالدة في الذاكرة، من الحماس الرقيق في “سهر الليالي” للفنانة فيروز، إلى الحب والحنين في “كان يا مكان” للفنانة ميادة الحناوي، وصولاً إلى الشجن العميق في “وحياتي عندك” للراحلة ذكرى. لم يكتفِ المثنى وفرقته بالعزف فقط، بل مدوا جسورًا من الود حين دعوا الجمهور للانضمام إلى هذا الطقس الجميل، ليتحول المسرح إلى ساحة احتفالية متميزة. كان هذا الحفل بمثابة اعتراف ضمني بأن الموسيقا لا تكتمل إلا بالتفاعل الصادق والمشاركة الوجدانية.

تتويج عفوي
بعد أن بلغ الختام ذروته العاطفية، فاقت حدود الأداء الاحترافي، وفي لحظة عفوية نادرة تجسد سحر اللحظة، اختتم الحفل بأغنية “إنت الحب” لكوكب الشرق أم كلثوم. حينها، انبعث صوت من بين الحضور ليشارك الفرقة في الغناء، فتحولت خشبة المسرح إلى مساحة حميمية بين براعة العازفين وشغف عشاق الفن. كان هذا المشهد تتويجًا أصدق للتفاعل بين الجمهور والفرقة. كما أشار فتح الله: “الموسيقا ليست استهلاكًا سلبيًا، بل حالة وجدانية تعلي من شأن الهوية وتجدد العهد مع التراث”.
نهضة تشبه سوريا
إن دلالة هذا الحفل تتجاوز حدود النغم لتلامس عمق الوجدان الوطني. فبعد غياب دام لأكثر من عشر سنوات، عادت الفرقة لتصدح في سماء دمشق. كشف المثنى علي عن مرارة هذه الفترة بقوله: “كنا منقطعين عن الحفلات لأكثر من ثلاثة عشر عامًا، بسبب الظروف في البلاد”، معلنًا استئناف الحفلات كبادرة مهمة وملهمة تحمل على عاتقها مسؤولية التفاؤل من أجل سوريا ومستقبلها وثقافتها. ففي زمن التحديات، كان صوت “لونغة” بمثابة نداء واضح: الموسيقا هي الحياة، والعودة للنشاط الموسيقي هي ضرورة قصوى وبداية لانطلاقة جديدة في بلد ينهض من جديد. فالحفل كان محاولة للنهوض بصوت سوريا من خلال الموسيقا والحفاظ على تراثها، وهو ما وضحه المثنى: “نسعى لتكريس الأنماط الموسيقية الموجودة في بلادنا، لأنها هوية بلادنا وهويتنا نحن”. وبهذا تحوّل الفن إلى واجب وطني تجاه الثقافة السورية، إذ أثبتت الفرقة أن الموسيقا العربية تمتلك لغتها الخاصة التي تعبر عن تاريخه بعمق.