الثورة – سمر حمامة
كانت الزيارة عابرة إلى أحد الأقارب، لكن ما رأيته هناك جعلني أشعر وكأنني دخلت فصلاً جديداً من كتاب الأسرة العربية المعاصرة.
بيت دافئ الجدران، واسع النوافذ، لكنه يحمل في داخله صمتاً مدهشاً، لا يشبه الصمت الذي يسبق الكلام، بل الصمت الذي يحلّ مكانه.
جلس أفراد الأسرة الأربعة في غرفة واحدة، لكن كلّ منهم كان يسبح في عالمٍ منفصل:الأب يُقلّب الأخبار على شاشة هاتفه وكأنه يطارد خبراً لن يُدركه.
والأم تتابع مقطعاً مصوّراً بعين لا تزال تشعر بالإرهاق.الابن يضغط على أزرار لعبته بضجيج يفوق عمره.
الابنة تنزلق أصابعها على هاتفها بسرعة تُشبه ركض الزمن الذي يسبقنا جميعاً.
أربعة كراسٍ متقاربة، وأربع مسافات داخلية لا يربط بينها إلا السقف.عندها أدركت أنّ ما أراه ليس مشهداً عائلياً عابراً، بل هوعنوان كبير لواقع جديد؛ العلاقات الأسرية الحديثة تتغيّر، لا تنهار، لكنها تبحث عن دفئها المفقود.
ما وراء الجدران، داخل الصمت الذي يزدحم بالكلمات غير المنطوقة.
جيلان تحت سقف واحد، لكن لا يجمعهما الزمن نفسه عندما حاولت سؤال “أم أحمد” عن الفرق بين الأمس واليوم، تنفّست بعمق وقالت:”كنا نعرف أحوال بعض بالنظرة، اليوم نحتاج إلى رسائل وصور لنعرف من معنا”.
ثم ابتسم ابنها “أحمد” ابتسامة فيها شيء من التحدّي وشيء من الحنين وقال:”ليتنا نتفاهم، نحن لا نعيش ضدّ أهلنا، نحن فقط نعيش بطريقة مختلفة، يحتاجون إلى فهمنا، ونحن نحتاج إلى صبرهم.”
بين هذين الرأيين تظهر حقيقة جوهرية: العائلة الحديثة لا تُعاني نقصاً في الحبّ، بل اختلاف في طريقة التعبير عنه.
جيل تربّى على الجلسات الطويلة، وجيل تربّى على الإيجاز السريع. جيل يرى القرب بالجلوس، وجيل يراه بالرسالة.
الشاشات… الضيف الذي صار فرداً من العائلة لم تعد التكنولوجيا دخيلة على الحياة الأسرية، بل أصبحت جزءاً من نسيجها.
وحين التقيت بالاختصاصية الاجتماعية الدكتورة ريما الأسعد، وضعت إصبعها على جوهر القضية، فقالت:”التكنولوجيا ليست عدوّ الأسرة، بل مرآة، فإذا وجد كلّ فرد راحته مع هاتفه أكثر مما يجدها مع أسرته، فالمشكلة ليست في الهاتف بل في الراحة المفقودة داخل البيت”.
بهذه الجملة قلبت الدكتورة المفهوم رأساً على عقب، فالخطر ليس في الشاشة التي نراها، بل في الفراغ العاطفي الذي تستغلّه.
العزلة الداخلية…
حين يسكن الجسد البيت ويغادره القلب

باتت العزلة داخل البيت ظاهرة لا يمكن تجاهلها،لا أحد يغادر المنزل، لكن الجميع يبتعدون عنه نفسياً.
أحد المراهقين أخبرني بصراحة نادرة:”أدخل غرفتي لأنّ الكلام يرهقني، ولأنّ أي محاولة نقاش تتحوّل إلى محاكمة.
“وفي المقابل، قالت والدته بصوت يشبه الاعتذار:”صرنا نخاف أن ننصح أبناءنا، كي لا يظنّوا أننا نهاجمهم.
“هكذا تتشكّل فجوة صامتة: الأهل يحذرون الكلمات، والأبناء يخشون السماع، فلا أحد ينطق ولا أحد ينصت.
المرأة وصراع الوقتكان الدخول المكثّف للمرأة إلى سوق العمل حدثاً إيجابياً بلا شك، لكنه حمل معه معادلة جديدة للأسرة.
تقول “رنا”، وهي موظفة بعد يوم عمل طويل:”نعود منهكين، فننصرف إلى الواجبات بدلاً من الانصراف إلى بعضنا.
“أما زوجها “سامر” فرأى أن المشكلة ليست في عمل الزوجين، بل في الزمن نفسه:”كلّ شيء يجري بسرعة.
نعمل، نركض، نرتّب، نُصلح ولا نبقى لأنفسنا لحظة واحدة.
“هكذا تصبح الأسرة كالمسافر المستعجل: يمرّ بالذكريات دون أن يتوقّف عندها.
الضغط الاقتصادي… الريح التي تهزّ الشجرة من جذورها
لا يمكن تجاهل الضغوط المعيشية التي تضرب الأسر اليوم.
قال “أبو يوسف” بلهجة لا تخلو من وجع:”كيف يكون الإنسان لطيفاً وهو يفكّر بالديون؟ كيف يبتسم وهو يعدّ الفواتير؟”وتؤكّد الدكتورة ريما ذلك بصفة علمية:”التوتر المالي هو أكثر ما ينعكس على العلاقات.
البيت يصبح ساحة للهموم، لا للسكينة.”فاليد التي تمسك المصروف هي اليد ذاتها التي يجب أن تربّت على كتف الأسرة، لكنّها منهكة.
هل تغيّر الحبّ؟ أم تبدّل شكله؟سألت الدكتورة ريما عن قلّة الحبّ داخل الأسر الحديثة، فأجابت:”الحبّ لم يتراجع، لكنه أصبح محاصرًا بالتعب.
الناس يحبّون كثيراً، لكن التعب كثير أيضاً.”الحب موجود، لكنه لم يعد يظهر بالكلمات التقليدية.
صار يظهر برسالة قصيرة، بنظرة عابرة، بلقمة ناجية على الطاولة، أو بانتظار متعب عند الباب.إنه حبّ خفي، لا يضع لافتات، لكنه حاضر.
بيت واحد.. وأربعة عوالم متباعدة
تبدو الأسرة الحديثة وكأنها تسكن مكاناً واحداً، لكنّها لا تشارك العالم ذاته.
الأب في عالم الأخبار، الأم في عالم العمل، الأبناء في عالم الإنترنت…والذكريات التي كانت تجمعهم أصبحت تذوب بين الانشغالات.
ولكن هل انتهى الدفء؟ هل فقدت الأسرة قلبها؟الجواب: لا. لكنّها تحتاج إلى طريقة جديدة للعثور عليه.
كيف تستعيد الأسرة نبضها؟قدّمت الدكتورة ريما خطوات دقيقة، بسيطة، لكنّها قوية:
وقتٌ يومي خالٍ من الشاشات، ليس مهمّاً أن يكون طويلاً.. المهم أن يكون صادقاً
الحوار قبل الصمت، والبوح قبل الانفجار.
المشاعر المؤجلة تتحوّل إلى قسوة غير مقصودة.
فهم لغة الجيل الآخر بدل تعديلها.
التفاهم لا يعني أن نصبح نسخة عن الآخر، بل أن نتقبّله.المشاركة في مواجهة الضغوط، فالضغط حين يُحمل جماعياً يصبح أخفّ.
إنشاء ذكريات جديدة.. لا انتظار ذكريات الماضي،الحياة تُبنى بما نصنعه اليوم، لا بما نفقده أمس.
العلاقات الأسرية الحديثة.. تبحث عن الدفء لا عن الذكريات بعد هذه الرحلة بين البيوت والقلوب والآراء، نجد أن الأسرة ليست في أزمة، بل في مرحلة تعلّم جديدة.
العالم تغيّر، والسرعة ازدادت، والضغوط تضاعفت… لكن الحاجة إلى الحضن نفسه، وإلى الكلمة الطيبة نفسها، وإلى الطمأنينة القديمة نفسها، لم تتغيّر.
الأسرة اليوم ليست باردة.. إنها فقط مرهقة.وتبحث عن لحظة صافية تقول فيها:”نحن هنا.. معًا.”ومهما ابتعدت المسافات داخل البيت الواحد، يظل هناك خيط صغير، غير مرئي، قادر على جمع الجميع إذا أُمسِك به بحنان.