ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
ليس من الصعب فهم أسباب الغلوّ الفرنسي إذا ما تمت مقارنته بحدود ومساحة الهامش الذي يتحرك به، وهو محكوم بمظلة أوروبية متهتكة وبقيد أميركي متجذّر، لكنه يظل مثيراً للتساؤلات وهو يجرّ فرنسا من ورطة إلى أخرى، ومن متاهة في السياسة إلى طلاسم في الدبلوماسية المحاطة بجملة من المحرّمات السياسية،
التي يصعب على صانع القرار الفرنسي أن يتجنّب الانزلاق فيها من دون محددات الوَهْم والتعويل على فتات الموائد الدولية، وإن اقتصر على اللعب في الهوامش تلك على قاعدة ملء الفراغ السياسي المحكوم غالباً بإرادة المشغّل الأميركي، بل الخاضع كلياً لكل ما تقتضيه وما تتطلبه في الهامش ومن داخل النَص.
لا أحد بمقدوره أن ينظر إلى السياسة الفرنسية من دون ربط أي خطوة بما سبقها أو بما يوازيها، ولو اختلفت المقاربة، ولا تخرج مبادرتها الأخيرة حول إعادة استئناف المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية خارج ذلك السياق، وهي تطرح المزيد من الشكوك في خلفية التحرك الفرنسي وأغراضه السياسية وغير السياسية، كما تثير عشرات من الأسئلة في التوقيت والمضمون، وتطرح على الملأ جملة من المؤشرات الحاسمة على أن فرنسا لا تكتفي باللعب في الوقت بدل الضائع، بل أيضاً في المحظورات المدرجة في سياق التوظيف الأميركي للدور الفرنسي القادم وتوكيله بالمهمة المستحيلة.
الفرنسي الباحث عن التعويض جراء الانكفاء في المهمات الطارئة على مستوى المشهد الدولي، واستبعاده من لائحة التفاهم الروسي الأميركي، يبدو مستعجلاً أكثر من أي وقت مضى بعد وصول شعبية هولاند إلى مستويات غير مسبوقة من التدني في تاريخ الرؤساء الفرنسيين، فإعادة تحريك المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية والرهان على تعديل المبادرة العربية بتفويض خليجي، ينزع منها ما تبقى من فتات، ليس أمراً اعتيادياً أو هو دافع ذاتي محض، بقدر ما هو إنتاج تسوية على مقاس الأهداف الإسرائيلية، ومحاولة مفضوحة للاصطياد في مياه ما أنتجته السياسة الغربية من دعم الإرهاب، وما زرعته من فوضى وخراب يعمّ المنطقة، لتنتج وفق معاييرها ما يرضي الإسرائيلي، وتنجز صفقة تكون على مقاس المشروع الغربي في استثمار نتائج الإرهاب، والحدّ من تداعياته داخلياً.
والواضح أن المصادرة الأميركية لجدول أعمال اللقاء الباريسي كانت تشي بالمحظورات تلك، وإن لم تعلنها مباشرة كقرينة دامغة على سياق الناتج الفرنسي الذي كان وسيبقى عاجزاً عن إنتاج أي تحرك خارج الهامش الأميركي، أو بعيداً عن تجاذبات العلاقة الأميركية الإسرائيلية، حتى لو توّهمت فرنسا أن الرصيد في العلاقة مع المشيخات يمكن أن يرجح كفّة حضورها، أو يقود المسعى الدولي إلى التسليم بالدور الفرنسي.
وأقصى حدوده أن يكون منفّذاً حرفياً للنص الأميركي، فيما الإضافات الناتجة عن التفويض الخليجي للفرنسي والتي يراهن عليها أو يعتقد أن بمقدوره أن يستثمر فيها وأن يوظّفها للضغط على الأميركي، كي يفسح في المجال أمامه أو يسمح له بحجز المقعد الموعود في القاطرة الدولية، لا تكاد تجد لها ما يقابلها في سوق التصريف الأميركي، ولا حتى الإسرائيلي الذي يدرك بفطرة التبعية الغربية أن بمقدوره أن يفرض إملاءاته على الفرنسي أكثر مما هو حاضر في الأجندات الأميركية التي تتبنى في الغالب ما يقوله الإسرائيلي من دون نقاش.
وهذا ما يمكن استنتاجه من إدارة الظهر الإسرائيلي ومحاولة التصيّد بما يصدر من مصر ليسقط المحاولة الفرنسية مساحة أو هامشاً خارج الاعتبارات الأميركية وحتى الإسرائيلية قبل أن تبدأ، بل هي في أقصى تجلياتها ليست أكثر من توكيل إضافي، ينشغل فيه الفرنسي ويحابي لحقبة إضافية المسعى الخليجي، ويعقد على حسابه المزيد من صفقات التسليح القادمة التي وفرت للطبقة السياسية الحاكمة في فرنسا بعض المحاججة حولها.
على هذه القاعدة كان التطلع الفرنسي يبازر في تطرّفه أمام مجلس الأمن حول المساعدات الإنسانية، ويحاجج في تداعيات كانت من صنع يديه ونتيجة لجوره ودعمه للإرهاب، وأن يتشدد في الطرح داخل أروقة المنظمة الدولية وعلى منصاتها، وصولاً إلى الإفصاح عن عدائيته التي يغالي بها، والتي تنمُّ عن صبيانية سياسية محكومة بكثير من الحقد والضغينة على المنطقة والعرب وقضاياهم، وتعوّل على الإرهاب كحامل إضافي في خدمة الأميركي مع الإسرائيلي من جهة، وليكون عوناً له يخفف من تأزمه الداخلي أو مخرجاً للهروب نحو الأمام من الأزمة التي تعصف بالساسة الفرنسيين.
الغلوّ الفرنسي بات ظاهرة تسترجع عوامل الاستفزاز القائمة، وتطرح إشكالية التبعية للأميركي في مفردات بديهية، على ساسة أراقوا ماء وجههم مراراً، وسقطت أوراقهم بما فيها ورقة التوت، وكانت في الداخل قبل الخارج، وما يطفو على السطح تتوازعه التمنيات بين لغو لا طائل منه، وعبث لا جدوى من النفخ في رماد ما أحرقه، ولا النبش في خراب ما أحدثه.
a.ka667@yahoo.com