ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير- علي قاسم:
لم يكن يوم أمس في حلب مجرد نهار طويل، مرت ساعاته ودقائقه ولحظاته ثقيلة وأحياناً متعبة، وفي بعضها الآخر ملتبس في اتجاهاته، بل أيضاً كان طويلاً في تفاصيله، حاله حال المعطيات التي ستكون،
ونجزم بأنها أكثر طولاً واستدلالاً من كل ما سبقها، حيث ينتظر أن يتحول إلى التاريخ الذي يحسم الفارق بين ما قبله وما بعده، وأن ما يصلح في الماضي لم يعد جائزاً في الحاضر، ولن يكون بأي حال من الأحوال مستقبلاً.
حلب تطوي صفحة وتفتح أخرى لا مكان فيها بعد اليوم للمساومات ولا موضع للابتزاز، فقد أنجزت ما وعدت به من دون أن يطلب أحد منها ذلك، وتفوقت على ما عداها في المعطيات والنتائج والتحليلات والاستنتاجات، وكرست واقعاً لم يعد من المسموح العودة إلى النقاش فيه أو الجدل حوله، ورسمت خطاً بيانياً متصاعداً ومساراً واضحاً ليوميات وطنية ستكون فيها نقطة الارتباط والتقاطعات بمختلف مستوياتها.
فالمسألة ليست مجرد خطوات متلاحقة في سياق تخليص ما تبقى منها من رجس الإرهاب ووجوده وحضوره، بل تتعدى ذلك إلى توسيع دائرة الارتدادات المتوازية والتي سنشاهدها تباعاً، ولم يكن ما جرى في مجلس الأمن خارجها، بحكم أن المتضررين من أجندات الإرهاب والخائفين على المرتزقة وأزلامهم لم يجدوا طريقاً يعرقل استكمال خطوات تنظيف حلب من الإرهاب إلا عبر مجلس الأمن، للتشويش ومحاولة خلط الأوراق التي يبدو أنه من الصعب على أحد بعد الآن أن يخلطها، بما في ذلك مجلس الأمن.
فكلمة الفصل قالتها حلب في نسختها النهائية.. وباتت اعتباراً من هذا التاريخ تدون في يومياتها ما هو بعد تطهيرها من الإرهاب، وتتطلع إلى كتابة يوميات جديدة أساسها وجوهرها العمل على تخليص ما ترسب منها وما بقي من آثار ذلك الإرهاب، الذي خيّم عليها يوماً ودُحر، حاله في ذلك حال كل غريب ومستبد وظالم يحاول مصادرة خياراتها أو أن يتحكم باتجاهاتها، أو أن يبقيها رهينة إرهاب، أو أن يتركها تحت وصاية مرتزقة يتقاذفون اليوم مسؤولية الهزيمة التي أوقعتها بهم حلب.
فحلب كانت مشغولة طوال الوقت بترتيب الملاحظات الأخيرة، ومهمومة بأهلها وناسها ولحظة الإفراج عن أحيائها، ولم تعطِ بالاً إلى تلك المواقف ولا إلى ما جرى ويجري في مداولات مجلس الأمن وما سبقها من إرهاصات عبّرت عن ذاتها، وهي بتجربتها تدرك أنه لا نيات طيبة لدى رعاة الإرهاب، ولا مع مشغليهم، ولا المستميتين لحمايتهم، وفي الوقت ذاته لم تنشغل عن أولوياتها، وهي تدرك بفطرة وطنيتها وبالتجربة التي مرت بها أنها في عيون الوطن وفي قلب السوريين الذين يحتشدون اليوم لسماع آخر أخبارها، بل فيهم من سبقها في إعلان ما تنتظره حلب، وفيهم أيضاً من كان يزاحمها في توقه لخلاصها.
لا تستطيع وأنت في حلب إلا أن تتوقف عند تلك التفاصيل المرتسمة على وجوه تعبت.. لكنها لم تتوقف عن التطلع للغد، وأرهقتها سنوات المحنة.. لكنها لم تستطع أن تفت عزيمتها، ولن يكون بمقدورك أن تتجاوز عشرات من الأسئلة التي تحتار كيف تختصر حلب إجاباتها من دون تردد، وهي تتابع بكل أمانة موقفها ودورها الوطني الكبير، الذي تدرك بتاريخها وحضارتها ووجودها ومركزية حضورها في الوجدان السوري أن تلك اليوميات جزء منهم، وأن تلك البطولات والتضحيات تعبير عنهم، وقد شاركوها جميعاً في تقديم تفاصيلها.
لذلك كان نهاراً طويلاً، لم يتوقف عندما حل المساء ولم ينتهِ حين جاء الليل، بل ظلت حلب في نهارها ومن دون توقف حتى جاءت اللحظة التي تعلنها للعالم أنها خالية من الإرهابيين، وأنها ببضع خطوات لابد أن تنهي ما خلفوه وأن تنظف ما تركوه، وإن احتاج الأمر لبعض الوقت حتى تمحي كل ما فعلوه وأن تلغي كل ما راكموه وما ارتكبوه من فظائع، وإنها لن تنسى، ولن تتوقف حتى تعيد ما دمروه، وما خربوه.
حلب مدينة الضوء والحضارة لم يتوقف توهج عطائها، رغم ظلامية الإرهاب وداعميه ورعاته ومشغليه ومموليه، ورغم عتمة الهنات فيها ورغم متاعب الحياة اليومية فهي ساهرة دائماً على إعادة نبض الحياة وعلى استمرارية بقائها، تسجل في كل يوم ملحمة وتضيف إلى صفحات بطولاتها المزيد، ولا تزال تراهن -وهي على مستوى الرهان- بأنها ستكون مدينة الحياة.. لم تستكن للقتلة، ولن ترضى أن تكون مأخوذة إلا بوطنها وناسها وجميع الذين ضحوا من أجلها.. وكانت نهاراتهم تشبه نهاراتها.. ويحكون ما تحكي.. ويقولون ما تقول.
a.ka667@yahoo.com