ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
كثيرة هي الخطابات السياسية المفصلية، التي تسجل منعطفات يكون المقياس فيها تبعاً لمعايير ومحددات أُخرج أغلبها من سياقه التوصيفي، ولم يكن غائباً بأي حال عن المقاربة في التوقيت بين الحدث الذي يليها أو ذاك الذي يسبقها، وغالباً ما تتعرض لأحكام المقارنة حيناً، والمحاججة أحياناً،
لكنها قلة بل نادرة في عالم اليوم أن تجد خطاباً سياسياً لا يكتفي بتسجيل البعدين المعتادين في السياسة عموماً، بل يُشكل تحولاً في المشهد السياسي والفكري من زاوية بعده الثالث.
في افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية أمس الأول حدد السيد الرئيس بشار الأسد ملامح السياسة السورية في هذه المرحلة.. مرحلة الحرب، ووضع محددات أساسية أو عناوين كبرى تتحرك من خلالها الدبلوماسية السورية من أجل استكمال المعركة، ومواصلة التصدي للحرب المفروضة على سورية بأبعادها المختلفة، وهو أمر ربما كان سياقاً يتجاوز المنحى التقليدي الذي يخرج به عادة في الظروف الطبيعية، حيث كان البعد الثالث هو الأساس، بل الركيزة والقاعدة الفقهية للسياسة وما يلحق بها، والبعد الترويجي للدبلوماسية وما يستتبعها، لأن ثمة فروقاً جوهرية سجلتها بتفاصيل وعناوين لم تكن مطروحة في النقاش فحسب، بل تشكل مراجعة نقدية وهوية إضافية لإجابات كانت عائمة وغير مكتملة ويشوبها الكثير من الغموض.
البعد الثالث هنا لا يقتصر على الرؤية السياسية ورسائلها، ولا تنحصر في إطار التعبير عن مواقف طالما انتظرها السواد الأعظم من السوريين، وجزء كبير من العالم باختلاف توجهاتهم، وبتناقض مواقفهم وأدوارهم، وإنما في البوابات السياسية التي أضافت ذاك المحتوى الفكري لمعالم مرحلة يتبدد فيها ما اعتراها من ضبابية وما أصابها من تشويش، خصوصاً تلك المتعلقة ببعض التفاصيل التي كانت تروّج لها قوى وأطراف وأحياناً تيارات أو شخصيات هنا وهناك، حيث برزت محدداتها الفعلية في جملة من المؤشرات التي قطعت أي شك وألغت أي تأويل أو تفسير مغلوط.
ويضاف إليها ما راكمته من رؤى مستقبلية تضع حداً نهائياً لحسابات ومعادلات تحولت لدى البعض إلى أوهام، وتورّمت لدى البعض الآخر، ووصلت في كثير من الأحيان إلى تبني سياسات محكومة بالكامل بتلك الأوهام، ودفعت باتجاه العودة إلى التعاطي مع ما افترضته من استطالات مرضية على أنها ظواهر طبيعية للحرب وما نتج عنها، فكان هنا البعد الثالث الأكثر حضوراً في إعادة تصويب الاتجاهات والتفريق القاطع بين الواقع والافتراض والفرز النهائي بين مكونات ناتجة عن عوارض مرضية، وتلك التي جاءت بحكم الضرورة الفعلية للمواجهة، والأهم كان السياق السياسي الذي استطاع أن يجرّد المعطيات من هوامشها ويعيد توجيه ما هو حقيقي وتفعيله واستبعاد كل ما تراكم بفعل جملة من التمنيات وأضغاث الأحلام.
والخلط بطبيعة الحال لم يكن خارج المتوقع، بل كانت له وظيفته، وأحياناً تم التعويل عليه للتعويض عما فشلوا في تحقيقه، والتخفيف من تداعيات العجز عن إحداث أي إنجاز إلا بلغة التدمير والتخريب، التي حققت أرقاماً غير مسبوقة تثقل على العقل الأميركي، وستكون «رصيداً» يضاف إلى سجله الدامي على مدى عقود هيمنته، وهو ما أحدث نقلة نوعية في التعويل هنا على سمات البعد الثالث ليكون المنبر السياسي الحاضر في تحديد وتوصيف ما يجري، حيث الهوامش في المقاربة والمرونة في الاستجابة لتطورات وأحداث لم تكن عاصفة فحسب، بل مدمرة أيضاً اقتلعت الكثير من فرضيات ونظريات وحتى محددات، اقتضت اجتراع ما يوازيها في المواجهة، وصولاً إلى نسج رؤى سياسية تحاكي العالم بلغته، وتضبط إيقاع التحولات فيه تبعاً لمجرياتها.
في الفهم العام للخطاب الذي تجاوز الصيغ الدبلوماسية ليأخذ تعابير أكثر واقعية، كان لا بد من التوقف مطولاً عما أفردته التراتبية السياسية للأولويات، والتي كانت تعيد اصطفافها على وقع تلك المحددات، وأرجأت الكثير منها ما درج على لسان العامة والساسة، على حد سواء، من أحاديث منسوبة إلى تقولات وأشباه روايات وشبه حكايات سردتها أو سربتها كثير من المواقف المتعجلة والمشاهد المتسرعة، لصياغة انطباعات كانت أكثر من خاطئة وأبعد من كونها مغلوطة، فأنتج ذلك الخطاب ببعده الثالث نهجاً إضافياً في المقاربة، ويصلح في الوقت ذاته قاعدة في الأعراف السياسية لعالم الغد وما بعده.
قد لا يكون الأمر مجرداً مما هو متعلق بما قبله، لكنه على الأقل يجيز النظر إلى حيثيات جملة من التباينات المسكوت عنها، أو المتفق عليها، بحيث قدم القرينة على أن المعركة أنهت الكثير من جولاتها، وأن الحرب أوشكت على التسليم بكثير من مصائر معاركها، وأن المواجهة تكاد تضع أوزار حروبها المتعددة، حيث لم تكتفِ هنا بوضع نقاط سياسية على أحرف ميدانية وإنجازات عسكرية حققتها بطولات الجيش العربي السوري وحلفائه، بل تكتب تاريخاً وفصولاً إضافية من حكايات التضحية أوجزها بكثير من التكثيف المتقن خطاب اللحظة الراهنة والرؤية المستقبلية ببعدها الثالث، وخطَّ إحداثياتها السياسية والميدانية ورسمَ معها خريطة التوجهات..
a.ka667@yahoo.com