إن من لا يقرأ أيّها الأعزاء يعشْ حياةً واحدة، حتى ولو تجاوز السبعينَ عاماً؛ أما من يقرأ فسوفَ يعيشُ خمسة آلافِ عام. القراءةُ أبديّةٌ أزليّة؛ كما عَبّر امبرتو إيكو.. وكما قال العقَّاد ذات يوم… وكم من كتبٍ غيَّرت حيواتِ الناسِ وطوّرتها وهذّبتها.. حتى كتبَ الروائي الإسباني كارلوس زافون على لسان إحدى شخصياتِ روايتهِ الشهيرة «ظل الريح»: «هذا المكانُ سِرٌّ يا دانيال، إنّهُ معبد، حرم خفي، كل كتابٍ أو مُجلّدٍ هنا تعيشُ فيهِ روحٌ ما، روحُ من ألّفه وأرواحُ من قرؤوه، وأرواحُ من عاشوا وحلموا بفضلهِ، وفي كل مرة يغيّرُ الكتابُ صاحِبَهُ أو تلمِسُ نظراتٌ جديدةٌ صفحاتِه، تستحوذُ الروحُ على قوّةٍ إضافيّة».
لكنّ المؤلم اليوم أن العلاقةَ ما بين الكتابِ والإنسان في الوطن العربي علاقة ازدادت تأزّماً عما كانت عليهِ في الثمانينيات والتسعينيات، وهي في المحصّلة العامة تشهَدُ تراجُعاً واضحاً، ولا سيّما بعَدَ ما أصابَ معظم الدول العربيّة من ازديادٍ في مستوى الأميّة بسبب حُربٍ خارجيّة وداخليّة وتدميرٍ يكادُ يكون مُمنهجاً لمؤسساتها التعليميّة والثقافية، ولعلّ بإمكاننا أن نختصرَ أشكالَ ومظاهرَ تلك الأزمةِ بالنقاط التالية:
1- قِلّة عدد الكتب التي تُطبَعُ في الدول العربيّة بصورةٍ واضحة، فقد بَيّنَ تقرير اليونيسكو للتنميّة البشريّة للعام 2003، أن الدول العربية مجتمعةً لم تنتجَ عام 1991 أكثر من 6500 كتابٍ، بالمقارنة مع 102000 كتاب في أمريكا الشماليّة و42000 كتاب في أمريكا اللاتينيّة والكاريبي.
2- ضَعْفُ حركةِ الترجمة وطباعة الكتب المترجمة في الوطن العربي؛ فبناءً على التقرير السابق: يُترجَمُ في البلاد العربيّة سنويّاً خُمْسُ ما يُترجم في دولةٍ صغيرةٍ كاليونان، وفي النصف الأوّل من ثمانينيات القرن العشرين كان متوسّط الكُتب المُترجمة لا يتجاوز 4,4 كتب خلال خمس سنواتٍ لكل مليون مواطن عربي، أي أقل من كتابٍ واحدٍ في السنة لكل مليون عربي؛ أما في هنغاريا على سبيل المثال فالمُعدّل 519 كتاباً مُترجماً لكل مليون مواطن، وفي إسبانيا 920 كتاباً لكل مليون.
3- عَددُ النُسَخِ من الكتاب المطبوع في البلدان العربيّة وسطياً 1000 نسخة أو 2000 نسخة، وفي حالاتٍ نادرة قد يصلُ إلى 5000 نسخة، بينما يتجاوز هذا العدد 50,000 نسخة في كثير من دول الغرب.
4- سوءُ توزيع الكتابِ وضعفُهُ في البلدان العربيّة بالرغم من كثرةِ معارض الكتاب، وأسواقِهِ؛ ذلك أنّ معظم الأرياف أو المدن البعيدة عن العواصم، لا يصلها إلّا القليل القليل من العناوين.
وإذا ما بحثنا في الأسباب الجديّةِ الكامنةِ وراء ذلك فسنجدها مُركّبةً تدخُلُ فيها عوامل خارجيّة وداخليّة وتتجاذبها جوانب اقتصاديّة وإداريّة وماليّة وسياسيّة وأمنيّة؛ فبالإضافة إلى مستوى الأميّة الكبير الذي كانَ في تسعينيات القرن الماضي بحدود 19،73% وفقَ بيانٍ للمنظمةِ العربيّة للتربية والثقافة والعلوم (أليسكو)، وتجاوزَ اليومَ هذا الرقم بكثير…ونرى الملايين من سكان بِلادنا يعيشونَ تحت خط الفقر، ولا يستطيعونَ تلبية احتياجاتهم المعيشيّة الأساسيّة، قبلَ أن يفكرّوا باقتناء الكُتبِ أو قراءَتها… كما أن «بعضَ الدول العربيّة- كما يقول أحد الباحثين- تُعامِلُ الكتاب على أنّه عدو محتمل ولا يمكن السماحُ بدخولِهِ إلّا بعدَ أن يثبتَ أنّه حسنُ السيرةِ والسلوك، وبعضُ دول العرب تعامله معاملة الضيف الثقيل».
وبالرغم من هذهِ الصورة القاتمة فإنَّ أملاً يلوحُ في الأفق تمثِّلهُ تجربةُ وزارة الثقافة السوريّة / الهيئة العامة السوريّة للكتاب، فقد طرحت هذا العام في سوق الكتاب مالا يقل عن 250 عنواناً في مختلفِ وجوهِ المعرفة ما عدا الدوريات الكثيرة الشهرية والفصليّة، وتمكّنت دور النشر الخاصة من إصدار مالا يقل عن 1300 عنوان وبالتالي فلدينا نحو 1550 عنواناً؛ وعملت الوزارةُ على تطوير وسائل إيصال الكتابِ إلى القارئ بدءاً من مُضاعفةِ عدد المعارض السنويّة، مروراً بطرحِ الكتبِ – ولا سيّما الموجّهة إلى الأطفال منها – بأسعارٍ زهيدةٍ جداً، وبصورة كتابٍ ناطق، وصولاً إلى إرسال الكتب إلى الأرياف البعيدة بسيارات خاصة بحيث تباعُ في القرى… وما إلى ذلك.
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الأحد 23-12-2018
الرقم: 16867